لكثرة تداوله وتكراريته، كان الحديث الأميركي عن العقوبات الاقتصادية، المالية منها بخاصة، التي تنتظر الفلسطينيين إذا ما أصروا على رفع ظلامتهم وملف دولتهم المأمولة إلى الأممالمتحدة، ممجوجاً ومملاً إلى حد الغثيان. ومع أن مداخلات الأوروبيين بهذا الخصوص، بدت أكثر تحفظاً في إثارتها لقضية العقوبات، إلا أنها، رغم نعومتها، تبقى في التحليل الأخير مثيرة للمشاعر ذاتها. لكن الغيظ من هذه التهديدات والإنذارات، الصريحة إلى درك الوقاحة أميركياً، والمرفوعة بشيء من الاستحياء والكياسة أوروبياً، لا ينبغي أن يحجب حقيقة ديمومة عجز الحالة الفلسطينية اقتصادياً بعامة ومالياً بالذات، وأنه لولا هذه الحقيقة لكانت أدوات الضغط الاقتصادي المالي على الفلسطينيين قد فقدت فاعليتها منذ أجل بعيد، ولمنح ذلك السياسة الفلسطينية مزيداً من حرية الخيارات في وجه عنجهية التحالف الغربي الإسرائيلي واستكباره. لا يشفي غلتنا من هذا الواقع المرير، واقع استمرار القابلية الفلسطينية للطرق والسحب والتشكيل اقتصادياً، الدفع بأن المؤسسات الدولية تشهد بجاهزية السلطة الفلسطينية لإعلان الدولة. فالعبرة بالمنظور والمشاهد والمعلوم للكل على أرض الواقع، ومن ذلك مثلاً أن هذه السلطة تصرف رواتب موظفيها شهراً بشهر، وعادة ما يتوقف ذلك على تدفق المنح الدولية (الغربية أساساً)؛ المرتهنة بالرضى الأميركي الأوروبي الإسرائيلي على السياسة الفلسطينية من عدمه. ندرك مدى صعوبة إفلات الفلسطينيين من أنياب السيطرة الاقتصادية الإسرائيلية الممتدة لعقود. كما نعلم أن هذه السيطرة تعود على إسرائيل بما لا يقل عن ثلاثة بلايين من الدولارات سنوياً. فالاحتلال الصهيوني مشروع استغلال اقتصادي بقدر ما هو استعمار استيطاني إحلالي أيضاً. غير أن الدونية الاقتصادية الفلسطينية ليست قدراً مقدوراً لا يمكن الفكاك منه. ففي زمن الانتفاضتين، الأولى قبل ربع قرن والثانية قبل عقد، جرت محاولات موفقة للخلاص من هذه الوضعية، على نحو أدى إلى صدقية اشتقاق مفاهيم خاصة لوصفها كالاقتصاد المقاوم والاقتصاد الموازي واقتصاد الكفاف والحد الأدنى من الاستهلاك. لقد أفلحت الانتفاضة الاقتصادية الأولى، إن جاز التعبير، في خفض الواردات من إسرائيل بنسبة 50 في المئة والصادرات السلعية إليها بنسبة 40 في المئة، كما هبط معدل الإنفاق العام في الضفة وغزة بمعدل 20 في المئة، وضمر استيراد السلع الكمالية هناك إلى 30 في المئة فقط، وذلك خلال عام 1988 وحده (عام الانتفاضة الأول). عطفاً على هذه الخبرة، نزعم أن الجانب الفلسطيني يملك طاقة الصمود الاقتصادي ومواجهة الهيمنة على سياساته من مدخل التحكم في أقواته. وإن قيل بأن التحولات السياسية والأيديولوجية التي استتبعت عملية التسوية وصيغة أوسلو وقيام السلطة الوطنية، واكبتها تحولات موازية أو رديفة، أنتجت نماذج سلوكية غير مواتية، كثقافة الاستهلاك والتفاخر الممزوجة بشيء من الفساد المالي والتهافت الأخلاقي، قلنا إن توجهات الانتفاضتين الكبريين لم تخل من النماذج المتهافتة والعناصر الشاذة، التي امتعضت من متطلبات الصمود والانخلاع من ربقة اقتصاد الاحتلال، بالنظر لاستفادتها من ورائه. وزدنا أن المجتمع الفلسطيني لم يكن وقتذاك مجتمعاً ملائكياً، ومع هذه النواقص ونحوها، فقد قطع الفلسطينيون شوطاً معتبراً على طريق الانعتاق من قيود الاحتلال. قد يجادل البعض بأن القصور والعوز الاقتصادي اللذان يُكرهان الفلسطينيين على قبول منح المانحين، ليسا بدعاً من ظاهرة شبه عالمية؛ تعتور دولاً قائمة على سوقها وترغمها أحياناً على القبول بما يجرح سيادتها. وهذا صحيح، لكن مقاربة العلاقات الاقتصادية بين الدولة القائمة بالاحتلال والشعب الخاضع له، ينبغي أن تختلف وجوباً عن مقاربة العلاقات الاقتصادية الخارجية بين الدول المستقلة، لأن العلاقات في النموذج الأول، تغذي عموماً موضوعة الاستتباع للاحتلال وتمد في عمرها بما يتعارض وطموح الاستقلال. وبالنسبة إلى الحالة الفلسطينية، فقد ثبت يقيناً أن ثمن العون الاقتصادي أكبر بكثير من أن تحتمله الأهداف الوطنية على صعيدي التحرر والدولة، وأنه يتوخى إجبار الفلسطينيين على تقديم تنازلات مميتة وليس فقط مؤلمة. هذا وإلا ما معنى الإنذارات الغربية المتوالية بفرض عقوبات اقتصادية على الفلسطينيين، كلما عنّ للآخيرين اتخاذ خطوة تقربهم من تحقيق أهدافهم السياسية في إطار حقوقهم المشروعة؟ المعني عندنا أن العوز الاقتصادي المالي يمثل عصباً فلسطينياً عارياً؛ لابد أن تحظى تغطيته بأولوية لا تُبارى، «الآن الآن» وليس غداً. * كاتب فلسطيني