مرة أخرى تهدّد أميركا بضرب العراق مقنّعة بغلاف حضاري برّاق، فأسلحتها متقدمة جداً على أخلاقها. وبعدما عرضت عضلاتها وقرعت طبول الحرب حتى سمع دويها في كل مكان، لم تعد المشكلة في قدرة العراق على تهديد جيرانه واسرائيل "وأطفال العالم" بل أن تبدو أميركا ضعيفة إن تراجعت. كلما بدا ان الجرح العربي قد يلتئم، هناك من يصرّ على فتح الجرح وتعميقه. وعندما توشك الأزمة على الانتهاء ويبدو في الأفق بريق أمل، تعود الأمور الى نقطة البداية ضمن دائرة مغلقة. وحين تهدد أميركا بشن معارك جديدة، يراقب بقية العرب من وراء حاجز زجاجي بارد مجريات الأحداث التي صنعها غيرهم من دون ان يكون لهم دور سوى الموافقة او الصمت. كما لو أنهم يشاهدون "فيديو" عن مصارعة حيتان في القطب الشمالي او الجنوبي. لذلك يؤمل بأن يكون المثقفون العرب صوتاً لمن لا صوت لهم، ولكنهم هم أيضاً مهمّشون في الوطن كما في المنفى. أميركا مصابة بغرور القوة والاستخفاف بالحياة الانسانية، ومرة أخرى يُنظر الى الحرب على انها لعبة تصرف النظر عن الأزمات والفشل في المجالات الأخرى داخلية كانت ام خارجية، فضائحية أم لا. ولمجرد اظهار القوة وتجربة الأسلحة الجديدة تنطلق الطائرات والصواريخ نحو أهدافها المجردة، وإذا ما حدث ان وقعت ضحايا بشرية، يكون ذلك شأناً جانبياً وصدفة ليس هناك من يتحمل مسؤوليتها. هددت أميركا بشن حرب جديدة ضد العراق حين فشلت في تحقيق السلام، وقد فشلت في تحقيق السلام لأنها ترفض الضغط على اسرائيل. بل، على العكس، اسرائيل هي التي تمارس الضغط على أميركا وليس من الغريب ان تكون لها يد في محاصرة كلينتون وفي اقحامها الجنس في حقل السلام والحرب. وليس من الغريب ان صهاينة أميركا هم في طليعة المحرضين على ضرب العراق، ويريدونها حرباً غير محدودة والى النهاية. كان على أميركا ان تحقق السلام، ولما فشلت لم تبحث في أسباب الفشل فقررت ان تهدد بشن حرب جديدة. ان مشكلة العرب في علاقتهم مع أميركا هي ان أسلحتها متقدمة جداً على أخلاقها وعلى قدراتها الذاتية على احترام حقوق الشعوب الأخرى. انها تحتفظ لنفسها بكل الاختيارات، ولا تترك للعرب من خيار سوى ان ينصاعوا لإرادتها من دون شروط وحدود. وقد ظهر ذلك خصوصاً من خلال تعاملها مع المسألة الفلسطينية والمسألة العراقية. والتفاوض لإيجاد حل للمسألتين، حين يحصل، لا يتم مع العرب، بل بدونهم وعلى رغمهم ولفائدة غيرهم من دون حساب لمصالحهم. ما يُقدّم للعرب بشأن السلام العربي - الاسرائيلي لا يتعدى الأوامر والتوجيهات والمطالب والتعليمات بالانصياع الكلي. وفي ما يتعلق بحل المسألة العراقية، يتم التفاوض بين الدول الانكلوسكسونية في اطار الأممالمتحدة او خارجها وبرغبتها او من دون رغبتها. وفي الحالين لم يعد الرابط بين المسألتين أمراً خفياً. ان الاستمرار في حصار العراق هو في خدمة ترسيخ الهيمنة الأميركية ولفائدة اسرائيل، والأصوات الصهيونية التي تدعو لمعاقبة العراق بأكثر قسوة ممكنة تعلو على كل الأصوات المشاركة في النقاش. بل لا نقاش في الأمر. وما مصير الأسرة الدولية التي كثر الحديث عنها في السابق؟ هناك أسرة دولية فقط عندما تلتقي الأصوات مع الصوت الأميركي. وحين لا تلتقي بعض الأصوات مع الصوت الأميركي، تهدد أميركا بأنها ستتخذ منفردة بدعم او بلا دعم من الآخرين الخطوات والاجراءات التي تخدم سياستها. لا تتسامح أميركا مع أي سياسة لا تتفق مع سياستها وتعتبر كل استقلالية خروجاً على مشيئتها. ومن هنا فإن المندوب الأميركي في الأممالمتحدة - أياً كان - يلجأ الى الأزمات لاستخدام لغة القوة والتجبر والتعالي. وبعدما كانت أميركا تتكلم في السابق باسم الأسرة الدولية، فإنها تعتبر في هذه الحال انها لم تعد بحاجة الى دعم وتستطيع ان تتصرف بمفردها. عندما قامت وزيرة خارجيتها اولبرايت بزيارة الى أوروبا ودول الخليج، قالت بوقاحة: "لست ذاهبة الى أي مكان لطلب الدعم… انني ذاهبة لأشرح موقفنا" "نيويورك تايمز" في 29/1/1998. وهي كغيرها لا تقيم وزناً لحلفائها العرب، فتقول من دون شعور باحراجهم ان "مواقفهم المعلنة هي غير المواقف التي يقولون بها في المجالس الخاصة". وبكل صفاقة تقول: "ان الولاياتالمتحدة وبريطانيا مستعدتان لاستعمال القوة أحبت باريس وموسكو ذلك ام لم تحب" "نيويورك تايمز" في 30/1/1998. وقد تبينت حدة التفاوت والتضارب بين موقف أميركا وموقف الأسرة العالمية من خلال افتتاح ألعاب الأولمبياد الشتوية في اليابان. إذ طلب رئيس لجنة الأولمبياد العالمية عدم خوض الحرب خلال أيام اجراء هذه المباريات الدولية، فأعلنت أميركا رفضها لهذا الاقتراح تواً وقبل ان تعطي نفسها المجال للتفكير في الأمر. في الوقت الذي كان كلينتون وطوني بلير يهددان بالحرب، كان قائد اوركسترا بوسطن السمفونية سيجي اوزاوا يقود جوقات موسيقية من خمس قارات تقدّم أنشودة للفرح من سيمفونية بيتهوفن التاسعة. وبالمقارنة بين الانسجام الكلي بين هذه الجوقات والأصوات المتعددة من مختلف قارات العالم كما لو انها تعبير عن هاجس السلم الانساني، كانت أصوات طبول الحرب التي تقرعها أميركا وبريطانيا نشازاً كلياً وخروجاً على الاجماع الدولي. وكم كان كلينتون في قرعه طبول الحرب هزيلاً بالمقارنة مع قائد الأوركسترا أوزاوا؟ وحين غلب النشاز الأميركي على الانسجام الانساني، لم يكن عجيباً ان ينتقد الجنرال الأميركي المتقاعد تشارلز هورنر وكان قائداً للقوات الجوية في حرب الخليج عام 1991 تهديد بلاده بضرب العراق، فقد عرف جيداً ان للقوة العسكرية مهما بلغت حدودها نتائجها السلبية. قال محذراً: "ليس بمقدور الحرب الجوية ولا غزو الجنود على الأرض حل مشكلة أسلحة الدمار الشامل… في نهاية الأمر يجب ان نعيد النظر في سياستنا تجاه العراق. صدام حسين هو الذي يسيطر على النقاش بالتوجه الى جماهيره في العالم العربي، وأوروبا وآسيا. ولقد نجح الى حد ما في رسم صورة للولايات المتحدة على انها قوة غاشمة تستبد بالضعفاء" "نيويورك تايمز" في 7 شباط/ فبراير 1998. واعترف جنرال أميركي آخر هو هنري شيلتون رئيس الأركان الحالي بأن الحرب "شيء وسخ"، ومع هذا يريد لجيشه ان يغطس في الوسخ. ما تريد أميركا ان تتجنبه ليس وقوع ضحايا من الشعب العراقي بل ان تحمي نفسها من الخوف بأن شعبها قد ينزعج من رؤية مشاهد دموية على شاشة التلفزيون. لا يهمها ما تقوله الأسرة الدولية ممن هم خارج دائرة هويتها الانكلوسكسونية. لذلك لا ترى أميركا أي حرج في ان فريق التفتيش الذي وصل الى بغداد في الأسبوع الثاني من كانون الثاني يناير الماضي كان فريقاً أميركياً وبريطانياً ولم يكن فريقاً دولياً ضم الفريق المؤلف من 16 عضواً 9 أميركيين و5 بريطانيين، وعضواً واحداً من كل من روسيا واستراليا. وهذا ليس مجرد مثل آخر على ان أميركا تصر على احتكار القرار السياسي، وعلى ان لا ترى أبعد من حدود هويتها الحضارية. ومن المنطلق نفسه تخلّصت أميركا من كل الوسطاء المعنين برعاية العملية السلمية واحتكرت قرار تطبيق قرارات الأممالمتحدة التي هي في الأصل قرارات أميركية، والأرجح ان بين أسباب عدم دفع ديون أميركا للأمم المتحدة، ان ذلك يسهل من قدرتها على استخدام مجلس الأمن. ولم يكن من الحكمة ارسال مثل هذا الفريق المنحاز سلفاً لو كان القصد حل المشكلة، فربما كان الغرض منه استفزاز العراق لتصعيد الاجراءات ضده. ولولا الهيمنة الأميركية على الأممالمتحدة لما حدث مثل هذا القرار الاستفزازي، فقد أرادوه ان يكون شوكة في صدر العراق. هل كان من الضروري لحل المشكلة مع العراق ارسال ضابط أميركي وليم سكوت ريتر الذي من المعروف جيداً انه شارك في حرب الخليج عام 1991 وهو خبير في المخابرات العسكرية الأميركية؟ كذلك ليس ريتشارد بتلر سوى اكيوس آخر مستعد لتلقي الأوامر من أميركا إن لم يكن يعمل حقاً لحسابها. كيف يتم الحل العادل حين تكون أميركا هي العدو والحكم في آن معاً؟ أصبحت الأممالمتحدة أسيرة المشيئة الأميركية، وأميركا هي أسيرة المشيئة الاسرائيلية وإن التقت مصالحهما، إذ لأميركا مصالح في الهيمنة على الخليج العربي واستمرار الحصار الى أكبر أجل ممكن. وليس من الغريب ان تكون محاولة استفزاز العراق وافتعال الأزمة معه محاولة أخرى لصرف النظر عن الطريق المسدود الذي وصلت اليها العملية السلمية. وبدل ان يحتد الجدل حول التعنت الاسرائيلي والامتناع الأميركي من الضغط على اسرائيل، انتقلت جبهة المعركة الى العراق المثقل بجراحه. ومن هنا هذا العنصر المهم في افساد العلاقات الأميركية - العربية، وهذه الغرابة في اصرار أميركا على التساهل مع اسرائيل، والتشدد ضد العراق. لم تحدّد أميركا حتى الآن أهدافها ولا حدود ونهاية لمطالبها. بعض أهدافها غير معلن، وما أعلنته انها تريد ان يتم التفتيش في كل مكان دون عرقلة أو شروط ومن دون تحديد للمهلة الزمنية، وتصر ان يتم التفتيش بقيادة ريتشارد بتلر لا الأمين العام للأمم المتحدة. تلك هي المشكلة وليس من ضمان لرفع الحصار عن العراق ووضع حد لآلام الشعب العراقي حتى لو تم تفتيش مختلف المواقع، لا يريدون ان يشعر العراق بأن هناك ضوءاً في نهاية النفق. تقول اميركا انها تتوقع من العراق تنفيذ قرارات الأممالمتحدة وهي التي تفسر هذه القرارات حسب أهوائها. لا تكتفي بالقضاء على أسلحة الدمار الشامل، بل تريد تعطيل القدرات العراقية على النهوض. ماذا يعني هذا الكلام؟ هل تريد اغتيال العلماء والخبراء العراقيين؟ هل تريد ان تلغي مؤسسات الأبحاث والبحث؟ وحين تلغي القدرات ومؤسسات البحث، ستكون لها شروط أخرى. وبمواجهة كل ذلك يتكلم العرب كمن يسير في حقل الألغام. لا شيء يحدث بلا سبب، وهناك أسباب عديدة وراء التهديد بضرب العراق: منها تحويل النظر عن الفشل في تحقيق السلام بين العرب واسرائيل وعن الرئيس كلينتون في محنته. لقد صرح المتكلم باسم البيت الأبيض ان كلينتون لا يعاني من عقدة "واغ ذا دوغ" Wag the Dog، اشارة الى فيلم سينمائي هوليوودي يتحدث عن رئيس يشن حرب مفتعلة لكي يوجه الأنظار عنه بعدما انكشف أمره في فضيحة جنسية. ليس من الواضح في السياسة الأميركية ما هي الحدود الفاصلة بين الواقع والمسرح. أين ينتهي الواقع ويبدأ المسرح او العكس؟ وما هذه المبالغات بأن العراق المهدد بأبسط وسائل عيشه يستطيع ان يشن حروباً و"يهدد العالم بأسره". قال استاذ جامعي في بغداد: "اننا نعيش عيشة الكلاب. حتى الكتب الأدبية ممنوعة علينا. هل الكتب أسلحة حربية؟". ما يملكه العراق على الصعيد العملي والنظري لا يوازي جزءاً ضئيلاً مما تملكه اسرائيل. هنا يقال في الغرب ان أسلحة الدمار الشامل لا يجوز ان تقع في "الأيدي الخطأ". ذكر الرئيس كلينتون ان هدفه الأساسي "منع الأسلحة الذرية والكيماوية والبيولوجية من الوقوع في الأيدي الخطأ" "نيويورك تايمز" في 30/1/1998. من هي الأيدي "الخطأ"؟ هل هي أيدي غير الأميركيين والأوروبيين والاسرائيليين؟ هل هي أيدي الشعوب الضعيفة الفقيرة وضحايا الاعتداءات الغربية؟ حذر الرئيس كلينتون في خطابه عن "حال الاتحاد": "أقول لصدام حسين: لا تستطيع ان تتحدى ارادة العالم. استعلمت أسلحة الدمار الشامل من قبل. اننا مصممون على ان نجردك من القدرة على استعمالها مرة أخرى". الغريب في الأمر ان الأميركيين تناسوا كلياً انهم استعملوا الأسلحة السامة اجنت اورنج في فيتنام، وأميركا هي وحدها بين شعوب العالم التي استعملت القنبلة الذرية. من يستطيع ان يذكّر هذه الدولة العظمى المأخوذة بغرورها، انها الدولة الوحيدة التي استعملت القنبلة الذرية وقد تستعملها في المستقبل، وفعلاً ألمحت انها قد تضطر الى استعمالها مرة أخرى في مواجهة بغداد. هناك من يستطيع ان يمنع العراق، وليس هناك من يستطيع ان يمنع الادارة الأميركية. ولذلك تشكل أميركا خطراً على العالم والبشرية اكثر من أية حكومة أخرى. خطت أميركا في الاعداد للحرب أبعد من الحدود التي يسمح بها التعقل، فهل تتراجع؟ أتوقع ان تتراجع، ولكنني أخاف ان يكون ذلك من قبيل التمني. ثم ان عليها ان تصغي للرأي العام العالمي، لا بد للحكومات العربية من التوصل الى اجماع في هذا الشأن فتعمل على رفع العذاب عن الشعب العراقي، ولا بد لها ايضاً من ان تسمح لشعوبها بالتعبير. مرة واحدة في التاريخ العربي، هل ترتفع الحكومات العربية الى مستوى التحدي؟