لا يزال العراق محتجزاً منذ سبع سنوات، وليس من المتوقع ان يرتاح في السنة الثامنة ولا يبدو ان هناك من نهاية للآلام التي تمتحن الشعوب وتظهر حقيقة معدنها وقدرتها على تجاوز الصعاب. في مطلع الشهر الحادي عشر من عام 1990 بدأ وزير الخارجية الاميركية جيمس بيكر جولة في اوروبا والخليج بهدف التمهيد لاصدار قرار جديد في مجلس الامن يدعو لشن حرب ضد العراق. وفي الوقت ذاته تماماً بعد ثماني سنوات، قام وزير الدفاع الاميركي وليم كوهين بجولة مشابهة بهدف التمهيد لقصف العراق ما لم يستأنف التعاون والامتثال التام. يعيش العراق في مسافة ضيقة بين العيش والاحتضار. وبين فترة واخرى يضطر ان يفتعل مواجهة، كما لو ان الجسد لم يعد قادراً على التحمل فينتفض محتجاً، كأنما يريد ان يقول شيئاً للعالم الذي لا تجمعه به لغة واحدة او انسانية مشتركة، ثم يعود الى سابق عهده. لقد جرّد العراق من كل انسانيته. صوّره اعداؤه ظلاً لحاكم فرد مستبد كي يسهل قتله. اختزلوه الى شخص يتحدى العالم المتحضر، وشملوا كل شعبه - صغاراً كباراً رجالاً نساء اقوياء ضعفاء فقراء اغنياء حكاماً محكومين ابرياء مذنبين - تحت تسمية واحدة نسبوا اليها كل شرور العالم بما فيها شرورهم هم بالذات كي يبدوا هم انقياء كمياه دجلة والفرات في منابعها الاولى. اختزلوا العراق فحلّلوا انتهاكه وذبحه متجاوزين كل الحدود المعقولة في التعامل مع اي مجتمع. وينتفض الجسد العراقي، كأي جسد آخر محتجز، بين فترة واخرى كي يذكّر نفسه بأن اشد شرور العالم هي ان يستسلم ويخضع ويقبل بالظلم، فلا بد من مقاومة كي يتأكد انه ما زال على قيد الحياة وان له كرامة وعنفواناً وسيادة. وينتفض هذا الجسد ايضاً ليذكّرنا نحن العرب وغير العرب ممن لم يفقدوا انسانيتهم ان شعب العراق لا يجوز ان يترك وحيداً في مواجهة محنته التي طالت في قسوتها ومدتها الزمنية ابعد من الحدود المعقولة. ويريد العراق بانتفاضته بين فترة واخرى ان نُصاب بالقلق حول مصيره. يتمنى على العرب ان يقلقوا معه ومن اجله وفي سبيل انقاذه كي يضمّد جراحه ويستأنف حياته وصنع تاريخه. الشعب العربي يقلق على العراق ولكن حكوماته لا تستجيب. تلك هي مشكلة العرب الرئيسية. ان آراء الشعوب العربية ومشاعرها ولا تؤخذ في الاعتبار في بلدانهم. وفي هذه الحالة، يصبح مقبولاً الا تنشغل بقية حكومات العالم ومؤسساته بمصير الانسان في البلدان العربية. ان الشعب في كل بلد عربي يسمع نداء العراق ويصاب بالقلق عليه ويفهم ان الجسد لم يعد يتحمل كل هذه الآلام المفروضة عليه. اين المشكلة اذن، ولماذا غياب الفعل الذي يرافق القلق؟ والجواب بكل بساطة هو ان اقصى ما يقلق الحكومات العربية والطبقات المهيمنة ليس البحث عن الخلاص من الاحتضار بل تجنب المواجهة. ان اكثر ما يقلقها ليس عذاب الانسان العربي، بل الخوف من الدخول في مواجهة المشكلات القائمة. وفي حديثنا عن الاحتجاز، ربما يخطر لنا ان كلاً من الرئيس الاميركي وليم كلينتون والرئيس العراقي صدام حسين يفهم محنة الآخر. كل منهما محاصر ويبحث عن مخرج. بل كل يواجه عدواً شرساً يقول له "لن يُرفع عنك الحصار ما لم تعترف بالحقيقة كل الحقيقة". ولن يعترف اي منهما بالحقيقة لأن العدو ليس محباً لها او حريصاً على معرفتها لذاتها. المقصود ليس هذه المعرفة، بل الاحتواء في خدمة مصالح مخالفة. ربما هذا هو الذي ترك انطباعاً في اميركا بأن ادارة كلينتون تريد ان تتجنب المواجهة مع العراق. كذلك ربما يوحي ذلك للقيادات العراقية بأن كلينتون منشغل بهموم الحصار المضروب عليه فيمكن تحديه او اختباره على الاقل. ولكن الادارة الاميركية الحالية كما الادارة السابقة لها وضعت نفسها هي ايضاً في صندوق حين وضعت العراق في صندوق كما يقال بلغة السياسة الاميركية. اميركا وضعت نفسها في الموقع الذي وضعت فيه العراق حين رفضت ان تعتمد حلاً ديبلوماسياً منذ 1990 حتى الوقت الحاضر. تتمسك بحل عسكري فحسب، وليس لها من سياسة تتعامل بها مع العراق سوى سياسة استعمال العنف. الادارة الاميركية حتى لو لم تكن مصممة على ضرب العراق، تشعر انها يجب ان تضربه كي تحافظ على مصداقيتها. قال مسؤول اميركي ان المصداقية الاميركية موضع شك، و"اذا لم نجب على التحدي العراقي الآن، نكون قد دمّرنا مصداقيتنا". حرصاً على هذه المصداقية، كانت الادارة الاميركية قد أمرت بضرب العراق رغم معرفتها ان عشرة آلاف عراقي سيقتلون. توقعت الادارة الاميركية موت عشرة آلاف عراقي، ولم يمنعها ذلك من اعطاء الاوامر. لقد اصبح الخيار في سياسة اميركا محصوراً، اذن، بتدمير العراق او تدمير مصداقيتها. وبهذا اصبحت مصداقية سياسة اميركا اهم من حياة شعب أو موته، لا يبدو ان سبع سنوات من الآلام العراقية كافية كي تثبت لأميركا ان لها مصداقية، وطالما ان اميركا بحاجة لان تثبت مصداقيتها فلن يستريح العراق في السنة الثامنة. في اطار هذه السياسة هدد مسؤول اميركي كبير، كما ذكرت "نيويورك تايمز" 8 تشرين الثاني/ نوفمبر، 1998، بأنه اذا ما حاول صدام حسين استخدام اسلحة الدمار الشامل "فيجب ان يعرف اننا سنزيل العراق من الوجود". ليس من وعد بالخلاص، واميركا هي المسؤولة بالدرجة الاولى عن فشل تطبيق قرارات الاممالمتحدة، لانها اعتمدت كلياً على العنف ولم تلجأ للديبلوماسية. لم تقدم اميركا للعراق سوى عصاة غليظة، وكل ما اعتمدت عليه، مثل قبضايات الاحياء، هو استعمال العنف. لو شعر العراق ان اميركا مستعدة لمنحه ضوءاً في نهاية المطاف ولو اعطي مكافأة لقاء كل تعاون، لقبل ان يرد على ذلك بمزيد من التعاون. لمدة ما تزيد على سبع سنوات من الحصار تم تدمير اسلحة الدمار الشامل اضعاف ما دمر خلال الحرب، كما يردد المسؤولون الاميركيون انفسهم، دون ان تتم اية محاولة لمكافأة العراق مقابل كل تعاون قام به. ان اميركا مصابة بالعمى في تعاملها مع العرب، ولذلك لا ترى من ضرورة لاعتماد الديبلوماسية في كل المشاكل، الا اذا كانت هذه المشاكل تتعلق باسرائيل. هناك ازمة مستعصية في تعامل اميركا مع العرب فانها تنتهج سياسة العنف والضغط، لا سياسة الديبلوماسية في حل مشكلاتها هذه. انها سياسة املاء الرأي وفرض الامتثال التام للشروط الاميركية، تعرف جيداً ان لها مصالح كبرى مع البلدان العربية، وينتظر عقلانياً ان يكون ذلك سبباً لحرص اميركا على اقامة علاقات ودية ليس فقط مع الحكومات العربية بل مع شعوبها، ولكن ما تقوم به هو عكس ما يمكن توقعه عقلياً ومنطقياً. انها تستسهل استعمال العنف فقط في علاقتها بالعرب. مقابل هذا نجد ان سبل تعامل العرب انفسهم مع اميركا ومع الغرب بشكل عام تكاد ان تنحصر بردات الفعل المتشنجة او تجنب المواجهة والاستسلام للامر الواقع. يكون ذلك حتى حين تمارس اميركا الضغط على الحكومات العربية حتى لصالح اسرائيل وليس لصالح اميركا ذاتها. العقوبات التي تمارسها اميركا على العراق تخدم اسرائيل بالدرجة الاولى، وبقدر ما يوافق بعض الحكومات العربية على استمرار الحصار، بقدر ما يعني ذلك عملياً انها تخدم اسرائيل، ادركت تلك الجكومات ذلك أم لم تدرك. في هذا الاطار يمكن ان نفهم ازدواجية المقاييس الاميركية في التعامل مع اسرائيل ومع العرب. لو ان المقاييس نفسها المعتمدة في التعامل مع العراق استعملت في التعامل مع اسرائيل لكان من الضروري محاصرتها الى ان تنسحب من الاراضي العربية المحتلة. ما تزال اسرائيل تحتل الضفة والجولان منذ اكثر من ثلاثين سنة، والشريط الحدودي في جنوبلبنان منذ 20 عاماً. اسرائيل هي التي تهدد كل جيرانها، ويرى بعض الاميركيين انها تشكل تهديداً لمصالحها الاميركية نفسها في المنطقة. على عكس ما فعلت مع العراق تماماً، عمدت اميركا لمكافأة اسرائيل على كل اعتداء مارسته على العرب، واستعملت الضغط وحق النقض في مجلس الامن لمنع أي عقاب بحقها. وفي الوقت الحاضر طالبت اسرائيل اميركا بدفع بليون وخمس البليون لتغطية نفقات اعادة انتشار قواتها من 13 في المئة من اراضي الضفة كما تم الاتفاق في مذكرة واي. وتوقع البعض ان تستعمل هذه النفقات ايضاً بشق طرق تسهّل تنقل المستوطنين بين المستعمرات. وفي الوقت الذي كانت اميركا تحاول التأكد من وجود آثار للغازات السامة على بقايا اسلحة عراقية تم تدميرها كحجة لاستمرار الحصار، انتشرت فضيحة مواد كيمائية تستعمل في صنع الغاز السام سارين كانت تنقلها طائرة العال الاسرائيلية من اميركا الى تل ابيب حين سقطت عام 1992 فوق حي سكني في امستردام. ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في عددها الصادر في 2 تشرين الأول اكتوبر 1998 ان تلك الطائرة كانت تحمل هذه المواد عند سقوطها فتسببت بقتل 43 مواطناً هولندياً، وقد تبين ان سكان المنطقة عانوا من عوارض صحية تنفسية وجلدية لم تعرف اسبابها. كانت الطائرة الاسرائيلية هذه تحمل خمسين غالوناً اميركياً من هذه المادة التي يمكن ان تصنع 594 رطلاً من السارين. وصرحت وزارة التجارة الاميركية ان اسرائيل عادت ونقلت على طائرة العال كمية مشابهة من هذه المادة الكيمائية بعد حادث سقوط الطائرة الاولى. ولا تقتصر هذه الازدواجية على التعامل مع العرب واسرائيل. كانت اميركا وما زالت تستعمل الطرق السلمية في التعامل مع الدول التي تجري تجارب نووية ومنها اخيراً الهند وباكستان. وبعد ان هددت بالحصار تراجعت وهي الآن تستأنف تقديم المساعدات لباكستان والهند في الوقت الذي تهدد العراق بالضرب ان لم يتعاون ويمثل. والغريب في الامر، في معرض الحديث عن الازدواجية، ان ثمانية حكومات عربية حذرت في 12 تشرين الثاني نوفمبر 1998 العراق بأنه هو وحده مسؤول عن نتائج اية مواجهة مع اميركا. وتتجلى هذه الازدواجية الاميركية بأبشع صورها من خلال تقرير نشرته "الواشنطن بوست" في 29 أيلول سبتمبر 1998 عن ان اسرائيل قدمت مساعدات اساسية لفريق الاممالمتحدة اونسكوم في العراق. جاء في هذا التقرير انه "لأكثر من اربع سنوات، حصل المفتشون عن الاسلحة لدى الاممالمتحدة على افضل معلوماتهم حول الاسلحة العراقية الممنوعة من الحكومة الاسرائيلية بواسطة قناة سرية ديبلوماسية… لقد قدمت اسرائيل الى اونسكوم معلومات استخبارية مفصلة وحساسة". وذكر التقرير ان المعلومات لم تكن باتجاه واحد بل متبادلة فقد جرت عدة اجتماعات مع مدير ومساعد مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية، فتمكنت اسرائيل ان تحصل على الصور الارضية التي التقطتها طائرات يو - 2 الاميركية. ويضيف التقرير ان "اسرائيل اصبحت منذ 1995 اهم مصدر بين عشرات الدول الاعضاء في الاممالمتحدة التي قدمت معلومات لاونسكوم منذ تأسيسها في نيسان ابريل 1991… وقد حافظت اونسكوم واسرائيل على تبادل المعلومات بينهما على انها في طليعة اسرارهما حساسية تخوفاً من ان يستعمل العراق هذه الحقائق في نشر دعايته واتهاماتها بوجود مؤامرة صهيونية". وكان رالف اكيوس هو الذي بدأ هذه الاتصالات في مطلع 1994. وكانت ادارة كلينتون على علم بذلك التعاون وباركته مع انها كانت شديدة التخوف من افتضاح المسألة. وفي عدة مناسبات كان سكوت ريتر هو الذي حمل افلام طائرة التجسس الاميركية يو - 2 الى اسرائيل لتظهيرها واعطاء نسخة منها للمخابرات الاسرائيلية. وتابع ريتشارد بتلر الاتصالات بالمخابرات العسكرية الاسرائيلية، فذكرت "نيويورك تايمز" في افتتاحيتها في 4 تشرين الأول اكتوبر 1998 ان افضل المعلومات التي تملكها اونسكوم عن الاسلحة العراقية وصلت اليها عن طريق اسرائيل. كذلك نشرت مجلة "نيويوركر" في عددها الصادر في 9 تشرين الثاني نوفمبر 1998 مقالة قدم فيها كاتبها بيتر بوير ادلة قاطعة عن ان اونسكوم كانت تعمل عن قرب مع الپ"سي.آي.اي" والموساد الاسرائيلي. وليس خفياً على احد ان اسرائيل تملك ترسانة هائلة من اسلحة الدمار الشامل بكل انواعها من نووية وكيماوية وبيولوجية والصواريخ البعيدة المدى. ان لأميركا في متابعة حصار العراق اهدافاً غامضة غير محددة، وبعضها لا علاقة له بقرارات الاممالمتحدة. انها ترفض ان تحدد سياستها واهدافها ومصالحها التي لا تفصل بينها وبين مصالح اسرائيل. وليس من المفيد التوجه الى الحكومات العربية ومطالبتها بعمل أي شيء في خدمة قضايا شعوبها، فهي مصرة على عدم مواجهة المشاكل الحقيقية لمعالجتها. * كاتب واستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.