لم يعمد المخرج المصريّ هناء عبدالفتاح في اقتباسه نصّ الكاتبة البريطانية كاترين هايس الى "تمصيره" كليّاً ولم يسع كذلك الى إسقاطه على الواقع المصري إسقاطاً مباشراً فحافظ على أسماء الشخصيات وعلى بعض الإشارات التي تدلّ على مصدره الأصليّ. أما اللهجة المصريّة التي اعتمدها في ترجمة الحوارات فبدت ملائمة جداً للشخصيّتين الرئيسيتين وهما أختان أصلاً وللعلاقة التي جمعت وفصلت بينهما. فهي لهجة شعبيّة ملطّفة ومشحونة في الحين نفسه بأبعاد داخلية وكثافات تعبر عن الحالات التي اعترت الأختين في مواجهتهما الحادّة. ولئن حلا للبعض أن يسمّي المسرحية "دراما نفسية" فهي ظلّت بعيدة من مزالق "البسيكودراما" ومن تقنياتها التحليلية التي تهدف الى "الكشف عن حقيقة الكائنات البشرية عبر أساليب درامية"، كما يعبّر رائد "البسيكودراما" ج. ل. مورينو. فالمسرحية القائمة على الصراع النفسي بين الشخصية وذاتها وبين الشخصية والأخرى وعلى العلاقة المتوترة والمنحرفة بين أشخاص الأسرة الواحدة لم تهدف الى التحليل النفسي ولا الى المعالجة النفسية مقدار ما غاصت في أعماق الأختين اللتين تعانيان "أمراضهما" الخاصّة وأزماتهما النفسية المتنامية حيال احتضار الأم وموتها الفيزيقي والرمزيّ. عالم العائلة الداخلية أحاطه المخرج بما يشبه الجوّ الطقسيّ: الأم المحتضرة ممدّدة على السرير فيما ترتفع الموسيقى الكلاسيكية يعزفها على الكمان شخص حاضر وغائب في الوقت نفسه. وحين تدخل الأختان الخشبة تشرعان في إضاءة الشموع، شموع الموت في معناه الاحتفالي والمسيحي تحديداً. فالمحتضرة كما تعبّر الأختان لاحقاً هي امرأة كاثوليكية ملتزمة وربّما غير ملتزمة وسوف تحاران ان كان عليهما أن تحرقا جثتها أم أن تدفناها قرب زوجها في مدافن الكاثوليك. إلا أنّ الأختين لم تلبثا أن تهدما الجوّ الطقسيّ الذي مهّد المخرج له عبر "مشاحناتهما" وهي ستكشف عن أهوائهما الداخليه وعن نزقهما وكراهيتهما المتبادلة وعن سوء العلاقة التي جمعت بينهما وبين أمّهما المحتضرة. وعوض أن تهاب الأختان لحظات احتضار والدتهما وتخشعا أمامها خشوع "البنوّة" تشرعان في استعادة ماضيهما غير السعيد في ما ضمّ من صراعات وأحقاد وشجون. بل هما تجدان الوقت العصيب ملائما ل"تصفية" علاقة قديمة تحتاج الى أن تُحدّد فيها الجلاّد والضحيّة، إلا أنّ الشخصيات الثلاث الأم والأختان الكبرى والصغرى ستكون جميعها في موقعي الجلاد والضحية. حتى الأم الصامتة ستظهر عبر مشاحنات الأختين في مظهر الجلاد فيما تحتضر بصمت وكأنّها ضحيّة الإبنتين اللتين عاملتهما معاملة الأم القاسية منذ صغرهما. ولم يشأ المخرج أن تحصل "المشاحنات" في مناخ واقعيّ صرف فإذا به يرفقها ببعض الجمل الموسيقية والمقاطع التي راح يعزفها على آلات ثلاث كمان، كلارينت وبيانو ثلاثة أشخاص كانوا أشبه بالشاهدين على ما يحصل، وبدت الموسيقى كأنّها طالعة من عمق المواقف لا من خارجها، وأدّت وظيفة درامية بامتياز عبر التنويعات التي رسّختها مرافقة حركة الشخصيات الثلاث. ولم تكن الموسيقى مجرّد عنصر تزيينيّ يفرض نفسه على العرض بل عبّرت في أحيان عمّا لم تعبّر الشخصيات عنه من أحاسيس خفية. أما السينوغرافيا فشاءها المخرج عبارة عن غرفة موت أو غرفة احتضار: عالم داخلي قائم وقديم لم يضئه سوى بياض الملاءة التي علتِ السرير، سرير الأم المحتضرة. عالم فيه من الرهبة ما فيه من القدم، عالم محذوف من العالم: الصور التي على الجدار لا تمثل سوى الذكريات والبيانو الموضوع وراء السرير يدلّ على ماضي الأم المحتضرة، وكذلك الأثاث الآخر الباهت من شدّة قدمه. في هذا العالم عالم الماضي وفي اللحظات الأخيرة من حياة الأم التقت الأختان لتفتحا دفاترهما المغلقة: الأخت الصغرى جون لمياء الأمير كانت وما برحت تلك الفتاة المرأة المتحرّرة والأنانية واللامبالية، فيما الأخت الكبرى ريتا ماجدة الخطيب كانت وما برحت أيضاً ضحيّة القدر الذي جعلها عاقراً وضحيّة الزوج الذي هجرها وتركها وحيدة مع أمها المحتضرة من دون أن يعلمها الى أين ذهب ولا متى يعود. إلا أنّ الأخت الصغرى التي منحها القدر زوجاً وأولاداً ظلّت فريسة ماضيها بل ضحيّته. فهي هجرت البيت العائلي فترة طويلة ولم ترجع اليه إلا لتلقي نظرة وداع أخيرة على أمّها. وأختها الكبرى لم تدعها الى البيت العائلي بغية وداع أمّها وإنّما لتكسر وحدتها الخانقة داخل غرفة الاحتضار. ولئن لم ترزق الأخت الكبرى أي ولد فهي غدت وكأنّها أم من خلال اعتنائها بأمّها المريضة. إنّها أم مصطنعة بل أم تكره أمومتها تماماً مثل أمها التي كانت قاسية في تربية الأختين. وفي أمومتها المصطنعة سعت الأخت الكبرى الى الانتقام من كونها امرأة عاقراً ومن زوجها الغائب ومن أختها اللامبالية. إنهما أختان تتواجهان إذاً، بل هما ممثلتان تتواجهان عبر لعبة فيها الكثير من التواطؤ الساحر والجميل: ممثلة قديرة جداً ماجدة الخطيب تواجه في أختها الصغرى لمياء الأمير صورة طالما حلمت بها وعجزت عن تحقيقها. فهي لم تستطع التحرّر من أسر الأم أو العائلة وهي لم تستطع أيضاً أن تبني حياتها الخاصّة ولا حياتها العائلية: وها هي الآن وحيدة ومنعزلة داخل هذا السجن، سجن الاحتضار، وكم نجحت ماجدة الخطيب في اختبار أحاسيس امرأة مماثلة فانتقلت من أقصى العنف الداخلي والقسوة الداخلية الى حالات من الهدوء الشفاف والاستكانة ملتقطة بشدّة الخيط الداخلي للشخصية. وقد عرفت فعلاً كيف تنفعل وتضبط انفعالها في الحين عينه وكيف تتفجّر داخلياً من دون أن تقع في المبالغة وكيف توظّف جسدها وصوتها وعينيها بدقّة ورهافة لتكون فعلاً تلك الأخت التي لم تعرف فرح الأخوة وتلك الزوجة التي لم تختبر حقيقة الحياة الزوجية وتلك الأم التي لم تكن أمّاً حقيقية. أمّا الممثلة لمياء الأمير فكانت الأخت الصغرى بحق: مغناج بعض الغنج، مرفّهة بعض الرفاهية، أم وزوجة، وفي أحيان طفلة بريئة تخاف الموت وتسأل عن الحياة بعد الموت. وفي جحيم "المشاحنات" تلك لم تغب بعض اللحظات البريئة والساطعة التي جعلت من الشخصيّتين المتنافرتين أشبه بالفتاتين الضعيفتين والغارقتين في حال من الحنان والرقّة. إنّها "الحالة" الإنسانية الكامنة في وجدانهما تستيقظ قليلاً لتعيدهما الى إنسانيّتهما. أما الأم المحتضرة فأدّت شخصيّتها برهافة وحدّة الممثلة لبنى محمود واستطاعت خلال صمتها القسريّ أن تجسّد ما يخالجها فهي شبه غائبة عمّا يحصل وإنّما حالة الاحتضار بامتياز: نظراتها كانت كافية لتقول كلّ ما تبغي قوله امرأة تحتضر ورجفاتها عبّرت بدورها عمّا ينتاب جسدها من توترات الموت. ولن يحلّ الموت إلا حين تأتي الأختان بملاءة بيضاء جديدة للسرير وللأم: حينذاك تكون صرخة الموت صامتة ولكن مدويّة في صمتها. الأم تموت من دون أي حشرجة فيما تصرخ الأخت الكبرى صرختها الصامتة واضعة يدها على فمها. لكنّ الموسيقى هي التي ستعبّر هنا عن انهيار زمن وبدء من آخر. والمخرج الذي نجح في تجسيد عالم الشخصيات الثلاث وفي إحاطته بجوّ جنائزيّ صامت ومتوتر، نجح أيضاً في خلق إيقاع داخلي وخارجيّ من خلال عمله على الممثلات الثلاث وعلى أدائهنّ المتدفّق كالنهر، ولعلّ العلاقة التي صاغها بمتانة بين الثلاث كانت الخلفية المتينة التي قام عليها العرض المقتضب والمتماسك كلّ التماسك والذي على رغم فقره واعتماده على لعبة الأداء لم يخلُ من المشهدية الباهرة المتجلّية في السينوغرافيا الكامدة وفي حركة الشخصيات ولا حركتها الأم والسرير وفي الإضاءة التي تفاوتت نوراً وظلاً بحسب تفاوت الحالات النفسية التي عاشتها الشخصيات الثلاث. * تقدم المسرحية على خشبة مسرح المدينة - بيروت. الرؤية الموسيقية: انتصار عبدالفتاح، ديكور: ياسمين جان، إدارة مسرحية: وجدي راشد، إضاءة: سمير فرج. وكانت المسرحية قدّمت سابقاً في القاهرة في سياق أعمال فرقة المسرح الحديث.