نشرت "الحياة" في عددها الصادر يوم 21/10/1998 مقالة لمحمد جمال باروت عنوانها "في حال الحزب الشيوعي السوري وانقساماته"، عرض فيها وجهة نظره حول الانشطارات العمودية التي حلت بالحزب والتدهور الذي أصابه، ومسؤوليات القادة، والتحولات التي طرأت على مواقفهم، والتناحر بين الكتل والاصطفافات المتناقضة، التي جعلت الحزب فصائل عدة، التأم بعضها عام 1991، وهي الآن فصيلان: "بكداشي" محافظ فقد تكوينه المديني والعربي لمصلحة الغالبية الكردية، وتهيمن عليه منظومة عائلية، لكنه يؤمن عنصراً من عناصر الاندماج الوطني، و"فيصلي" ليبرالي منفتح متفاعل مع أطروحات الموجة الديموقراطية الثالثة في العالم، لا يزيد حجم عضويته فعلياً عن ألف عضو، لكن وزنهم السياسي أكبر من وزنهم التنظيمي. واكتفى الباحث في مقالته - على غير عادته - بسرد الوقائع المقطوعة عن سياقها واجتزائها، وتكييفها للوصول الى نتيجة قررها مسبقاً - على رغم بعض التزيينات الطفيفة - وذكرها على لسان موريس دوفرجيه، ومفادها ان الأحزاب كالانسان تولد وتشب وتمرض وتموت؟ وكان متوقعاً من الباحث الذي أصدر عدداً من الكتب والدراسات المعمقة، بينها "الدولة القطرية" و"حركة القوميين العرب" و"حوارات النهضة العربية"، ان يستخدم منظومته المعرفية في تحليل الأسباب التي أدت الى الصراع والأزمة في الحزب الشيوعي السوري وفي المجتمع العربي كله، أنظمة وشعوباً وأحزاباً وطبقات وفئات وأفراداً: فمرور عقدين بعد الاستقلال السياسي حافلين بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية، والتغيرات العالمية، كان كافياً لتمضي الطبقات نحو التبلور، ويتسع التعليم، ولتتساءل الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية عن دورها في صناعة القرار، وتعرض برامجها الرامية الى تحقيق أهداف الأمة في العدالة والتنمية والتقدم والوحدة القومية. وغاب عن بال الباحث ان نزعة الاستئثار بالسلطة وامتيازاتها إرث راسخ في الدولة العربية، جلب الكثير من الكوارث، وهو العارف بالاستبداد الشرقي وتصوراته الاحادية التي عممها حول الحكم والادارة والعلاقات العربية والدولية، وغابت عن بال الباحث تأثيرات النظام الأبوي والعلاقات العشائرية، وهشاشة البنية الاجتماعية التي انتجتها، وأثرها على التكوينات السياسية والاجتماعية والادارية في البلدان العربية، وغفل الباحث، أو تغافل، عن الاشارة الى أن عصرنا حفل بصراع يجري اليوم في كل مكان، وفي صميم كل امبراطورية وأمة وطبقة وعرق وفرد، بين طريقتين في التفكير والتصرف والفعل، على حد تعبير ادغارموران، وأن الشيوعيين السوريين يعيشون في خضم هذا الصراع وليسوا في جزيرة معزولة، ولهم تناقضاتهم وتصوراتهم المتباينة حول مسائل كثيرة، وسبل معالجتها، وتتقاذفهم أخطار وتأثيرات لم يشر اليها الكاتب، فغياب العلنية وسيادة نزعة الاستئثار بالسلطة والحزب، دفعا الصراع الى طرق متعرجة وكواليسية، بعيداً عن النصوص والقرارات التي أحسن الكاتب الرجوع اليها، لكنها لا تقول كل شيء، ولا تفصل في أسباب الأزمة وتعرجاتها، وليس خافياً على أحد أن هذه الأمور شلت دور الهيئات، وأبعدت الاصطفافات عن أن تكون حول فكرة أو هدف، ووجهتها صوب التجمع حول هذا القائد أو ذاك، أو حسب تأثير "البوصلة السوفياتية"، وهو التأثير الذي طاول معظم الأحزاب الشيوعية والأنظمة الصديقة للاتحاد السوفياتي، ويمكن ربطه بظروف الحرب الباردة والاستقطاب الدولي. وليس خافياً ما أحدثته هزيمة عام 1967 في المجتمع العربي كله من تبدلات، فقد أيقظت في قواه الحية روح التساؤل والبحث عن مخرج من التدهور، وضرب الانشطار الأنظمة العربية والطبقات والأحزاب والمثقفين، وتصدعت الطبقة الوسطى على حد تعبير طيب تيزيني، أو تآكلت، والشيوعيون - على رغم تمثيلهم العمال والفلاحين والمثقفين - تحدروا بمعظم كوادرهم من الفئات الوسطى أو صعدوا اليها بخبراتهم، ودار الصراع بين الشيوعيين أنفسهم - وهو جزء من الصراع الدائر في المجتمع - حول برامج وأفكار وآليات عمل تنظيمية وكفاحية: مشروع البرنامج عام 1976 - النظام الداخلي ومبادئ التنظيم وتطبيقاتها عام 1978 - تنظيم عمل الهيئات وتحديد الصلاحيات وضمان تعدد الآراء عام 1984 وهذه العناوين التي حال المناخ السائد في الحزب وخارجه دون الوصول الى نتائج حولها مع الحفاظ على وحدة الحزب، هي العناوين نفسها التي عاد الشيوعيون بفصائلهم المتعددة الى مناقشتها والتوصل الى آراء بشأنها تضمن وحدة الارادة والعمل، وحق المناقشة والحوار. وعقدوا مؤتمراً توحيدياً عام 1991، وقاطع الفصيل الشيوعي الذي يقوده خالد بكداش الحوار في اللحظات الأخيرة، ولم يشارك في حضور المؤتمر التوحيدي. ولا أرى ان طريقة مناقشة الكاتب للأحداث وتعيينه للفئات والكتل التي شاركت فيها، واستنباطه النتائج، وذكره الأرقام، تتسم بالدقة والموضوعية. وقد قيل من قبل كلام كثير حول ذلك، شارك فيه العارفون بالشأن الحزبي والسياسي وسواهم، ووجد كثير من الشامتين والمتزمتين في انهيار الاتحاد السوفياتي فرصة مواتية لتسفيه منجزات الاشتراكية، وإبراز أخطاء التجربة السوفياتية، وكيل الاتهامات للشيوعيين السوريين ونعتهم بأوصاف العمالة واللاوطنية، وتسفيه تضحياتهم وبرامجهم وأعمالهم. كما وجد بعض المثقفين المحبطين الفرصة مواتية لاستعادة وصايتهم، وادعائهم احتكار الحقيقة، ولفت الأنظار، بتصريف نقمتهم، وتعويض عجزهم وهامشيتهم، من خلال الانتقاص من دور الحزب الشيوعي السوري، في وقت يحاول فيه الحزب مد الجسور الى كل طاقة خيرة، ويرفض احتكار الحقيقية، ويسعى مع كل القوى الوطنية والديموقراطية الى بناء مؤسسات المجتمع المدني وتوسيع المشاركة السياسية والشعبية في ادارة البلاد. ولن أقف كثيراً عند التعميمات التي أطلقها الباحث، أو الأسلوب التقريري الذي اتبعه، ولن ألومه على المفردات التي استخدمها خارج سياقها، وهو المهتم كثيراً بدلالات الألفاظ ومعانيها ضمن الحقل المعرفي الذي تستخدم فيه، ومن الأمثلة الدالة هذه العبارات: "حكم خالد بكداش الحزب - تدخلت موسكو لرأب الصدع - أخطر ما وجهه بكداش الى مراد يوسف تهمة العلاقة مع المخابرات العراقية - وتورط بكداش في اشاعة روائح الأزمة والنفخ فيها... الخ". حتى معارضة الحزب لمنح شركة تريبكو الأميركية حق التنقيب عن النفط في سورية لتعارضه مع الشعار الوطني المثبت في ميثاق الجبهة الداعي الى استثمار نفطنا بخبرات وطنية، اعتبره الكاتب من صنع خالد بكداش، وجرى توظيفه لتشكيل "قوات ردع" داخل الحزب، وتقوية كتلة وإضعاف أخرى كذا. وحفلت المقالة بكثير من عبارات الانشطار والتدهور والتراجع والاحتضار والنعي التي يدلل بها الباحث على أن الحزب الشيوعي السوري يسعى الى الهلاك. إن صورة الحزب الشيوعي السوري التي عرضها الكاتب أظهرته جماعات ضيقة معزولة عن محيطها تتناهبها المنافع، وتنهشها الصراعات. وان مقالة كهذه بألفاظها وشواهدها واستنتاجاتها لا تنتمي الى العلم، لكنها تنتمي الى العلم الناقص الذي هو أخطر من الجهل البسيط كما يقول سلامة موسى، واستحضار أجواء الأزمة وتفاعلاتها في وقت تتجه فيه الجهود نحو الحوار وتوحيد الجهود لا ينتج إلا الاحباط والانكفاء. وكنت أتوقع من الباحث باروت أن يشير بتوسع الى دور الشيوعيين البارز في تعميم الثقافة، وتضحياتهم في الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، وصمودهم ونقائهم الأخلاقي وصدقيتهم، والى تأكيدهم أهمية الجانب الاقتصادي في تحقيق الاندماج الوطني والوحدة القومية، خلافاً للشعار الحالم المبني على المشاعر والإرادة الذي طرحه بعض القوميين، أو الشعار "النوستالجي" الأصولي الذي طرحه الاسلاميون المتزمتون حول الأمة الاصلاحية، وهذه الحقائق أكدها مثقفون ومفكرون كثيرون من غير الشيوعيين. وأذكر الباحث الفاضل ب "اننا مخلوقات من النظام القديم، نريد مع ذلك أن نساعد في بناء النظام الجديد، وان واحداً من برامجنا يجب أن يكون نحن أنفسنا"، كما أذكره بأن أهم سمات الحياة التنوع والتعدد والغنى. وهو أمر لم تعهده الأحزاب السياسية في ظل غياب الشرعية، وحال الطوارئ المستديمة. ولن يتحقق هذا التنوع من دون خوض صراع طويل، تصطف الى جانبه قوى عدة ومؤثرة. وأذكر الباحث باروت بأن هم الشيوعيين الدائم هو خير الوطن وناسه وكادحيه، ومعايشتهم والدفاع عن مطالبهم، ومواجهة العولمة والأخطار المحدقة بالأمة العربية وبسورية المحاصرة، وان مهمة كهذه تحتاج الى جهود جميع الوطنيين، وهي تتطلب مراجعة نقدية حقيقية للمرحلة السابقة لا استعراضاً متعجلاً، وتتطلب استبعاد عوامل الإقصاء والتهميش، وترتبط باكتشاف قنوات الفعل، ومساعدة الأحزاب وجماعات الضغط على تحسين مناخات العمل السياسي، واجتذاب آلاف الامكانات المعطلة والطاقات الشابة الذاهلة عن حاضرها ومصيرها الى دائرة الفعل الثقافي والعملي والاجتماعي والسياسي. وتحويل المياه بعيداً عن طاحونة اليأس الدائرة، وقد صاغ الشيوعيون وطوروا مفاهيم جديدة للحوار والتعاون، ومعايير وقواعد للعمل المشترك وللتوحيد، وطرحوا مبادرات للحوار والتعاون مع أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية والمثقفين الوطنيين ورجال الدين المستنيرين، ولانجاز أعمال مشتركة معهم مع احترام آرائهم ومعتقداتهم. ومعروف أن الحياة أضافت مشكلات كثيرة وجديدة الى تلك التي ناقشها الشيوعيون طويلاً، ويتطلب الأمر منهم جهوداً اضافية لفهمها والتعامل معها. صحيح ان الأزمة والانقسامات اتعبت الشيوعيين وأزعجت أصدقاءهم، لكنها كانت درساً قاسياً وضرورياً على حد تعبير لينين، تعلموا منه اشياء كثيرة، منها تنظيم النقاش، وقراءة الوقائع بالتعرف على شروطها الموضوعية والذاتية، والقراءة النقدية للتراث، والاستقلالية، والعمل الجماعي، وأدركوا أن فوق أكتافهم رؤوساً لا قبعات كما أشار رسول حمزتوف. * كاتب سوري، عضو أسرة تحرير "نضال الشعب".