كان نزع فتيل الازمة السورية - التركية، التي أوصلتها انقرة الى حافة الهاوية في الشهر الماضي، هو الانجاز الاهم للديبلوماسية المصرية في السنوات الاخيرة، غير ان هذا الانجاز لا يزال في حاجة الى متابعة، ليس فقط لضمان عدم حدوث انتكاسة، ولكن سعياً الى حل أشمل للنزاع الممتد بين البلدين. وحبذا لو يتم ذلك من خلال صفقة شاملة تحقق تسوية تاريخية لمصلحة طرفيها والعلاقات العربية - التركية في مجملها. فمن الصعب التطلع الى اعادة بناء هذه العلاقات على اسس افضل من دون مثل تلك التسوية. فالحل الذي صيغ في اتفاق اضنة في 21 تشرين الاول اكتوبر الماضي، يقتصر على تعامل سورية مع "حزب العمال الكردستاني" الذي يخوض صراعاً مسلحاً ضد السلطات التركية منذ 1984. فلم يكن ممكناً، في اجواء ازمة بالغة الحدة، ان ينجح تحرك ديبلوماسي لا يركز على المشكلة المثارة وينزع فتيلها قبل كل شيء. ولذلك اتجه الدور المصري مباشرة صوب هذه المشكلة بسرعة وموضوعية، مسلحاً بدعم عربي ومساندة فعلية من السعودية بصفة خاصة، وتنسيق مع ايران بصفتها الرئيس الحالي لمنظمة المؤتمر الاسلامي، فضلاً عن تأييد اميركي معلن. وأثمر هذا التحرك تهيئة الاجواء لمحادثات أمنية مباشرة للمرة الاولى منذ ما يقرب من اربع سنوات، اسفرت عن الاتفاق الذي انفرجت معه الازمة. لا ينبغي ان تكون هذه هي نقطة النهاية للتحرك المصري الذي بدا، منذ انطلاقته الاولى، مبشراً بما هو اكثر. فالظروف التي اجريت فيها المحادثات المباشرة فرضت ان يأتي الاتفاق جزئياً، على النحو الذي كان عليه البروتوكول الامني الذي تم التوصل اليه في العام 1993، وتأسست بموجبه لجنة ثنائية عقدت اربع دورات كان آخرها في كانون الثاني يناير 1995. وشهدت الفترة التالية لتوقيع ذلك البروتوكول تطورات مشابهة لما يحدث الآن. فقد اتخذت سورية اجراءات امنية كان اهمها اغلاق معسكر لتدريب عناصر "حزب العمال الكردستاني" في بلدة حلوة في البقاع الغربي قرب الحدود اللبنانية - السورية. كما فرضت قيوداً على انتقال عناصر هذا الحزب، وعملت على تأمين الحدود التي يصل طولها الى نحو 800 كيلومتر لمنع تسلل "العناصر الارهابية". غير ان البروتوكول لم يصمد لأكثر من عامين لسبب اساسي ينطبق على اتفاق اضنة بدوره، وهو انه لم يُربط بتسوية شاملة للنزاع. وهذا درس ينبغي للطرفين استيعابه اذا ارادا اكثر من اتفاق موقت. وعلى رغم ان للطرف التركي مصلحة اكبر في اتفاق دائم، او على الاقل قابل الاستمرار لفترة معقولة، يبدو الجانب السوري الاكثر استيعاباً لذلك الدرس، وهو ما يُستفاد من اهتمامه باستئناف التحرك المصري. وقد عبّر وزير الخارجية السوري السيد فاروق الشرع عن هذا المعنى خلال زيارته الى القاهرة غداة توقيع الاتفاق مع تركيا بقوله: "عندما تهدأ الأمور قليلاً نأمل من اشقائنا في مصر، وفي اطار المساعي التي بذولها، ان تتم متابعة تغيير المناخ العام بين سورية وتركيا وحل جميع المسائل المعلقة". وهذا الاستعداد السوري لتسوية أشمل لا تبدي تركيا استعداداً مثله حتى الآن. ويخشى ان تكون مؤسستها العسكرية بالغت في تقويم نتائج الازمة او قفزت الى استنتاجات متعجلة من نوع ان التهديد باستخدام القوة وصولاً الى حافة الهاوية، هو السبيل الأكثر فاعلية لحل الخلافات. وهذا هو الاستنتاج الذي شاع لدى معلقين اتراك "أسكرتهم" نشوة استجابة سورية مطالب تركيا الامنية كلها. وعبر بعضهم عن اغتباط شديد بما اسماه احدهم "قوة تركية حسمت في 15 يوماً ازمة استمرت 15 عاماً". وليس أدل من هذا الاستنتاج على فقر في الرؤية وتصور في فهم الواقع. وليس هنا مجال تقدير حقيقة قوة جيش منهمك نحو ثلثه في حرب استنزاف داخلية وعبر الحدود مع العراق. فالمهم هو انه اذا شاركت المؤسسة العسكرية هؤلاء المعلقين استنتاجاتهم، فلن يكون هذا في مصلحة الاستقرار الاقليمي، ولا تركيا نفسها. وسيكون من الخطر الشديد ان تشجع هذه القراءة المبسترة للواقع على انتهاج سلوك مشابه، او اكثر تهوراً تجاه اليونان في الازمة القبرصية، التي سيزداد اشتعالها كلما اقترب موعد نصب الصواريخ التي تعاقدت عليها قبرص مع روسيا. هذا فضلاً عن ان مثل هذه القراءة يدفع الى استمرار التغاضي عن الاخفاق الذريع في حل المشكلة الكردية، وما يترتب على ذلك من توتير علاقات تركيا مع معظم جيرانها، وليست سورية وحدها. ومع ذلك فالأرجح ان الثقة التي اكتسبتها مصر في الاوساط التركية من خلال اضطلاعها بوساطة أدتها بموضوعية ونزاهة على رغم علاقاتها الوثيقة مع سورية، يتيح لها فرصة معقولة لمتابعة دورها والبناء على ما أنجزته. المهم هو ان تقتنع الديبلوماسية المصرية بأن دورها لم ينته، او بالأحرى تتخلى عن اعتقادها في انه انتهى عندما بدأت المحادثات المباشرة بين الطرفين. وعندئذ فهي تستطيع ان تذكر تركيا بأن لائحة المطالب الاولى التي تسلمها الرئيس حسني مبارك من الرئيس التركي سليمان ديميريل تضمنت مطلباً صيغ كالتالي: الوعد بإقامة علاقات حسن جوار، وقد اوفت سورية، من جانبها، بهذا الوعد عبر ما اتخذته من اجراءات امنية. ويبقى ان تؤكد تركيا بدورها حرصها على بناء علاقات حسن جوار. صحيح ان الديبلوماسية المصرية مثقلة بمهمات كثيرة، إلا ان من بينها ما لا يرقى في اهميته بأي حال الى انجاز تسوية تاريخية بين سورية وتركيا. فهذه مهمة لا تتحمل الانتظار، وينبغي اعطاؤها اولوية متقدمة. فالديبلوماسية المصرية تتحمل المسؤولية الاولى في استعادة تركيا وإحباط محاولات سلخها عن عالمها الإسلامي، وربطها أكثر فأكثر بإسرائيل، حتى اذا كان التعاون العسكري بينهما لا يزال محدوداً. فهو لم يتخط المستوى التدريبي - التسليحي الذي يعتبر اقدم اشكال العلاقات العسكرية الدولية وأوسعها انتشاراً. ولا يمكن اعتباره تحالفاً استراتيجياً يلزم كلاً من طرفيه بمساندة الآخر في اي ازمة، انطلاقاً من القاعدة التي لا يقوم من دونها مثل هذا التحالف، وهي ان ما يهدد احد طرفيه يهدد الآخر. وقد رأينا كيف نأت اسرائيل بنفسها عن الازمة السورية - التركية، بدءاً من إعلانها انها ليست طرفاً بينهما، ووصولاً الى تخفيف تحركاتها العسكرية على الحدود، وتبليغ الرئيس حافظ الاسد رسالة من رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو بهذا المعنى عبر المبعوث الاوروبي ميغيل موراتينوس. غير ان هذا المستوى الابتدائي من العلاقات العسكرية يتسم بأنه مفتوح وقابل لأن يتطور اذا توفرت مقومات لذلك. وحتى اذا لم تتوفر هذه المقومات في المدى المنظور، فإن النمط الراهن للعلاقات العربية - التركية في مجمله ليس صحيحاً ولا يساعد على تطوير هذه العلاقات بما ينسجم مع الحجم الحقيقي للمصالح المشتركة والمتبادلة. ومن هنا ضرورة استئناف التحرك المصري الذي يحسن ألا تكون خطوته التالية معالجة باقي الخلافات، وانما تشجيع الطرفين على تنمية علاقاتهما في المجالات الاقتصادية التي تتاح فيها امكانات لذلك. فليس افضل من الاقتصاد وسيلة لعقلنة السياسة. ومثال واحد نضربه، وهو الغاز الطبيعي الذي تبدو سورية مصدراً واعداً لانتاجه، في الوقت الذي تزداد حاجة تركيا اليه بأكثر مما تستطيع الصفقة الكبرى التي عقدتها مع ايران في اواخر 1996 تلبيته. ويفيد متوسط التقديرات الجاهزة الآن ازدياد الطلب التركي على الغاز الى نحو 25 بليون متر مكعب في العام 2010، في مقابل 15 بليون في العام الجاري، في حين ان الصفقة مع ايران توفر اربعة بلايين فقط. وهناك ايضاً آفاق مبشرة لتعاون تصنيعي اذا تحسنت الاجواء. ويمكن للديبلوماسية المصرية ان تعمل على ضم سورية الى مجموعة الدول الثماني الاسلامية التي تأسست في حزيران يونيو 1997 بمبادرة من رئيس الوزراء التركي السابق نجم الدين أربكان. فاذا صار هناك اساس لتنمية المصالح المشتركة، بالتوازي مع تقدم في التعاون الامني عبر الاتفاق الأخير، تستطيع مصر، حينئذ، طرح الصفقة الشاملة التي يمكن ان تقوم على مساومة مؤداها توقيع اتفاق نهائي لاقتسام مياه الفرات بدلاً من الاتفاق المرحلي للعام 1987، في مقابل إقرار سورية نهائياً بالحدود التركية الحالية. وليست هذه مبادلة للأرض بالمياه بالمعنى الدقيق. فالأرض الاسكندرون - هاتاي في يد تركيا وباعتراف دولي. كما لم تعد سورية تثير قضيتها، ولا حتى في ذروة الأزمة الأخيرة. ولكن تحتاج تركيا الى اعتراف سوري يغلق آخر صفحة في ملفها. وستجد سورية مصلحة في ذلك ضمن مصالحة تاريخية توافق خلالها تركيا على عقد اتفاق نهائي لاقتسام المياه على اسس أكثر عدلاً. وليست هذه هبة، وانما عودة الى الحق في العلاقة مع من يفترض انهم شركاء في التاريخ والمصالح. وصفقة على هذا النحو فيها مكسب للطرفين بلا خسارة. وفيها، فوق ذلك، آفاق مفتوحة لعلاقات عربية - تركية جديدة. * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي"