إن الحديث عن التحديات والرهانات الثقافية للقرن الحادي والعشرين يحيل بالضرورة على قضية محورية لا مناص من استحضارها، وهي الثورة الاتصالية وعلاقتها بالواقع الثقافي الجديد. وما من شك في ان جموح العولمة الاقتصادية قد يحجب عن أنظار البعض البعد الثقافي والحضاري لهذه التحولات العميقة التي نعيش على وقعها اليوم، والتي لا تخلو دوماً من عنصر المباغتة. فلنتذكر كيف تسارع نسق الاحداث في العالم سنة 1989 بصفة لم يكن يتوقعها الكثيرون. فمن سقوط جدار برلين وانهيار الامبراطورية السوفياتية الى بروز شبكة "انترنت" والشروع في البحوث المخبرية حول الاستنساخ. لم تكن المدة التي تفصل هذه الاحداث الجسام عن بعضها البعض تتعدى الأشهر، وهو ما جعل عدداً من المفكرين والمحللين يذهب الى حد اعتبار تلك السنة بداية القرن الحادي والعشرين لما كانت تحمله من رموز ومن بذور لتحولات جذرية ومصيرية بالنسبة الى كل المجتمعات من دون استثناء. إن ما حدث في العالم في نهاية العقد الأخير وما يحدث فيه اليوم زاد في قناعة القيادات السياسية والنخب الوطنية ان في الرصد الواعي واليقظ لمجمل التحولات العالمية دعماً للمنهجية الانمائية وتمتيناً للجسور نحو المستقبل. ولا بد من ان تنزل كل مقاربة لهذه التحولات البعد السياسي والبعد الاقتصادي والبعد التكنولوجي والبعد الثقافي المنزلة التي يستحق في سياق المعطيات الجغراسياسية الجديدة وفي ضوء النظام العالمي الذي هو بصدد التشكل وذلك وفق نظرة شمولية تستند الى جدلية العلاقة بين هذه الابعاد. ومن البديهي القول ان الثورة الاتصالية العارمة التي يشهدها عالمنا اليوم خلقت واقعاً ثقافياً ومجتمعياً جديداً يتعين تشخيصه والتوقف عند بعض دلالاته وإشكالاته. وقد يكون من الأنسب منهجياً، للخوض في هذه المسألة، ان نستعرض في البداية تجليات الثورة الاتصالية وآفاقها تمهيداً لطرح جملة من التساؤلات حول عولمة الثقافة وثقافة العولمة قبل ان نخلص الى تحليل المستقبل الثقافي في وسائل الاتصال، ودور المنظمات والدول في صياغة النظام الاتصالي والثقافي العالمي الجديد. لئن كان المحرك البخاري والكهرباء قوام الثورة الصناعية في العالم منذ قرنين فإن أساس الثورة الاتصالية التي تميز هذا العصر نسيج من الشبكات المعلوماتية والإعلامية صاغ خيوطها تزاوج حصل بين قطاعات كانت قبل عقدين فقط منفصلة عن بعضها البعض، ونعني الاتصالات والمجال السمعي - البصري والاعلام. ونجم عن هذا التزاوح بروز نظام متعدد الوسائط فتح مسالك جديدة تسمح بمعالجة كم هائل من المعطيات الرقمية وتوزيعها وخزنها انطلاقاً من الصورة أو الصوت أو النص. وبذلك أضحت المعلومة في هذا القرن مادة استراتيجية قد تتجاوز أهميتها الطاقة. فالسيطرة على تكنولوجيات الاتصال وبنوك المعلومات والقدرة على انتاج الذكاء الاصطناعي تعد اليوم واحداً من المعايير الاساسية التي تقاس بها قوة الدول وتقدمها. ومن هذا المنظور، يمكن القول ان الثورة الاتصالية غيرت أسس النظام العالمي الذي أنبنى في السابق على التوازن العسكري ولا سيما السلاح النووي، والذي يرتكز في الحاضر على العنصرين التكنولوجي والاقتصادي. فلا غرو إذن ان تصبح المراهنة على تكنولوجيات الاتصال بمثابة الخيار الاستراتيجي بالنسبة الى البلدان المتقدمة التي تبلغ نسبة نمو الصناعات الاتصالية فيها 8 في المئة سنوياً. ويتوقع ان تصل نسبة مساهمتها في المنتوج الداخلي الاجمالي بهذه البلدان الى حدود 10 في المئة سنة 2000. واعتباراً الى ما تقدم ذكره، ندرك سبب اعتماد بلد كالولايات المتحدة على الصناعات الاتصالية لمزيد خلق الثروات علماً بأن الادارة الاميركية تراهن منذ سنة 1993 على قطاع الاتصال لتعزيز القدرات الاقتصادية للبلاد من خلال برنامج ضخم وطموح سمي بپ"الطرق السيارة للاتصال" الذي اكتسى بُعداً عالمياً منذ أن أكدت البلدان الأكثر تصنيعاً انخراطها فيه. والطرق السيارة للاتصال شبكات معلومات عالمية تعتمد على الهاتف والقمر الاصطناعي والكومبيوتر لإقامة نظم متكاملة يرتبط بواسطتها الافراد والمجموعات بالآلة بغية الحصول على المعلومة. وتأتي في مقدمة هذه الشبكات شبكة "انترنت" التي تحرص القيادة الاميركية على إدراجها ضمن "مشروع مجتمعي حقيقي"، سمي بپ"الجسر نحو القرن الحادي والعشرين"، ويهدف هذا البرنامج الى تطوير البحوث واقامة شبكة جامعية افتراضية بالتعاون مع جامعات ومؤسسات تستخدم تكنولوجيات عالية وتسمى هذه الشبكة "انترنت II"، بالإضافة الى استعمال شبكة "انترنت" في التحاور مع الادارة وعصرنة النظام الصحي وتعميق ديموقراطية التعليم بربط كل أقسام المدارس بالشبكة قبل حلول سنة 2000. إن كل ذلك يؤشر الى انتقال البشرية من المجتمع الصناعي الى المجتمع الاعلامي الشامل أو بالأحرى من عالم مادي الى عالم لامادي سيكون من أسسه: - شبكة الشبكات ونعني "انترنت" التي ستشهد، حسب توقعات الاخصائيين، تطوراً كبيراً في المستقبل، اذ انها ستشكل وسيلة تخاطب وتحاور من الدرجة الأولى بين مئات الملايين من البشر ومصدر معلومات ثرياً ومتنوعاً لا غنى عنه. - نسيج من الشبكات الاتصالية التفاعلية ذات النطاق الواسع والدفق العالي. - تلفزيون ستغيره التكنولوجيا الرقمية تغييراً جذرياً فتزيد في عدد قنواته وتجعل منه جهازاً تفاعلياً يسدي العديد من الخدمات ويحيل الى قواعد معلومات ومكتبات صور، وبذلك سنمر من تلفزويون تنساب منه البرامج لتغيب بعد مشاهدتها الى تلفزيون خزن لبرامج يمكن الرجوع اليها حسب طلب المشاهد. - التقنيات الفرضية التي ستفتح امام الصناعات السمعية - البصرية تلفزيون، فيديو، سينما، ألعاب... آفاقاً عجيبة ستؤدي حتماً الى تنمية الذكاء الاصطناعي والقدرة على مزيد من الابداع والابتكار. وصفوة القول ان البشرية بفعل تطور تكنولوجيات الاتصال الحديثة سائرة نحو عالم معلوماتي سيكون "قرية افتراضية شاملة". انه منحى جديد ستتخذه الثورة الاتصالية التي غيرت بعضاً من سلوكياتنا وأساليب عيشنا تغييراً جذرياً وأثرت في مختلف مجالات حياتنا فولدت نمطاً حضارياً وثقافياً غذاه تيار العولمة، حري بنا ان نحاول تبين ظواهره واستجلاء دلالاته. عولمة الثقافة ليس من الهين الإقدام على سبر أغوار الواقع الثقافي الجديد، وليد الانفجار الاتصالي، باعتباره واقعاً بصدد التشكل، غير مكتمل الملامح ودائم التغير. وفي بدايات مسار العولمة الثقافية ربما لن نقدر الا على تحسس ظواهر هذا الواقع وملامسة تضاريسه. لقد أفضى تنامي تيار العولمة الى قيام جدل عميق، على صعيد العديد من البلدان والمنظمات الدولية والاقليمية، حول القطاع الثقافي الذي ازداد الوعي بأهميته بوصفه ركيزة من ركائز التنمية الشاملة المتناسقة ووسيلة لصيانة الهوية والخصوصية. أليس هذا الجدل بشأن المسألة الثقافية وازدياد الوعي بخطورتها - ولو كان ذلك بدرجات متفاوتة - من مزايا العولمة؟ وهذه الثورة التي نشهدها اليوم في مستوى المفاهيم والمصطلحات والمضامين، والتي فرضتها ضرورة مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي والتحولات العالمية المختلفة، ألا يمكن اعتبارها، هي الأخرى، من ايجابيات العولمة؟ ولو دققنا النظر في هذه الثورة لأمكن لنا أن نستنتج ما يلي: أ - في مستوى المفاهيم: طفت على السطح مفاهيم كانت بالأمس القريب من قبيل الأمور الثابتة أو المسلّم بها كمفاهيم الأمة والدول والسياسة والدين والثقافة والهوية... لتصبح موضع تأمل وبحث. كما برزت في الآن نفسه مفاهيم جديدة نذكر منها ما هو متعلق بالمجال الاتصالي كالثقافة المعلوماتية Cyberculture والفضاء المعلوماتي Cyber espace والافتراضية virtualite والأخلاقيات الإعلامية Info ethique. ب في مستوى المصطلحات: نلاحظ سعياً متواصلاً الى تفجير اللغة بتوسيع حقولها الدلالية بغية تطويعها حتى تكون محملاً لهذه المفاهيم الجديدة، ولا شك في أن هذا الانفجار اللغوي لن يترك اللغويين وأهل الأكاديميات والمعاجم - خصوصاً منهم في الوطن العربي - في راحة بال. ج - في مستوى المضامين: ليس بامكان أحد أن ينكر الاضافات التي تحققت في شتى مجالات التعبير الثقافي من أدب ومسرح وسينما وفنون تشكيلية... وتميزها في كثير من الأحيان بالجرأة في طرح القضايا وبتكسير طوق الأشكال التقليدية، علاوة على اتسامها بالطرافة والحرص على تجاوز المألوف والتحليق في فضاءات الابداع الرحبة. وفي هذا السياق، يمكن لنا أن نستحضر الفتوحات التي أنجزها مبدعون ينتمون الى فضاءات جغرافية من خارج العالم الغربي استطاعت أعمالهم أن ترقى الى مستوى العالمية. أليس الرواج الذي لاقته أعمال كتلك التي أنجزها السينمائي المصري يوسف شاهين والأصداء الواعدة التي وجدتها في الخارج أعمال فنية من تونس ومن بلدان عربية أخرى دليلاً على أن المنتوج الثقافي قادر على الانتشار عبر "القرية الكونية" إذا ما كان موسوماً بالجودة وبالصدق في التعبير عن المشاعر الانسانية؟ إن ذكر هذه الأمثلة قد يعارض أصحاب الطرح الذي يعتبر العولمة مجالاً لمزيد من تكريس هيمنة ثقافة أو ثقافات سائدة، هيمنة زرعت بذورها منذ عقود طويلة بوسائط مختلفة، بوضوح، من خلال الخطاب الايديولوجي، وبصفة غير مباشرة عن طريق شاشات السينما والتلفزة، الحالمة لأساطير التفوق المبهرة وعن طريق أنماط استهلاكية في المأكل والمشرب والملبس والترفيه، يُراد من وراء نشرها التأشير الى رغد العيش والانخراط في روح العصر. وقد يضيف أصحاب الطرح نفسه قائلين: مهما تعددت الأمثلة بشأن التنوع الثقافي المزعوم فانها لا تمثل في الحقيقة سوى حالات نادرة وشاذة اخترقت، في لحظات لاوعي، وربما بفعل إرادي، جدار النمطية السميك. ومواصلة لهذا الجدل، يمكن طرح السؤال التالي: ان كان الاعتقاد بأن العولمة تيار أحادي المصدر والاتجاه فكيف تفسر طفرة الانتاج الثقافي المتعدد المنابع الذي اعتمد وسائط مختلفة بما مكّن من ترويجه على أوسع نطاق وايصاله الى كل الشرائح الاجتماعية بما في ذلك الشرائح الأقل حظاً؟ وهل من تفسير لظاهرة انتشار البث الفضائي الذي لم يعد حكراً على البلدان المتقدمة بل أصبح متاحاً لبلدان عربية أخرى نامية استطاعت بواسطته التعريف بإبداعاتها وخياراتها الحضارية؟ هل غابت عن الأذهان الثغرات التي فتحتها في جدار النمطية بلدان من خارج الفضاء الغربي أو الأميركي في المجالين الثقافي والسمعي البصري؟ ان أبطال المسلسلات الأميركية والأوروبية ليسوا وحدهم اليوم القادرين على الانتشار بلغات عدة بل ان أبطال Telenovelas، مسلسلات بلدان أميركا اللاتينية، ساروا على خطاهم في هذه السياحة اللغوية الواسعة؟ ومن يدري ربما يلتحق بالركب غداً أبطال المسلسلات العربية. فهل يجوز الحديث إذن عن "تنميط أو غزو ثقافيين؟". * رئيس المجلس الأعلى للاتصال في تونس والرئيس السابق لاتحاد اذاعات الدول العربية