نشرنا الاسبوع الماضي القسم الاول من دراسة عبد الحفيظ الهرفام عن تحبيات الثقافة الراهنة، ونواصل اليوم في القسم الثاني والاخير متابعة الموقف العربي من هذه التحديات. ثقافة العولمة على هذه الحجة يمكن القول: تأملوا جيداً في الانتاج الثقافي المتداول حالياً في العالم وفي محتوياته؟ أليس هذا الانتاج في نسبة كبيرة منه أحادي المصدر؟ أليست مضامين هذا الانتاج - وان اتسمت في ظاهرها بالتنوع والعمق والقدرة على توليد المفاهيم - وعاء صاغته لعبة الخطاب لمزيد تمرير النمط التجاري واشاعته باعتباره نقطة ارتكاز العولمة؟ ان كان هذا الانتاج خالياً من نزعة هيمنة ثقافية واقتصادية فلماذا دعا البعض الى "الاستثناء الثقافي" في اتفاقات "الغات"؟ وهنا يجدر طرح جملة من الاشكالات الناجمة عن هذه الأوضاع الثقافية والمجتمعية الجديدة وتطوراتها المرتقبة. والبداية تكون بالتساؤل حول دور وسائل الاتصال، خصوصاً منها الجماهيرية، في تعميق الوعي بالمسألة الثقافية وفي صيانة الهوية والخصوصية. والأسئلة التي تفرض نفسها يمكن حصرها في ما يلي: - أي مساهمة يمكن أن ننتظرها في هذا المجال من القنوات التجارية والخاصة التي ما فتئت تكتسح المشهد الاتصالي العالمي وتعزز موقعها فيه، علماً بأن هذه القنوات قائمة على منطق الربح وديدنها استقطاب الجماهير بكل الطرق؟ - الى أي مدى ستبقى القنوات العمومية والحكومية ضامنة لحضور المواد الثقافية في برامجها؟ - والى متى ستظل هذه القنوات صامدة أمام التنافس الشرس المفروض عليها من قبل القنوات التجارية؟ ألم نلاحظ في بعض الأحيان انزلاقات القطاع العمومي الذي يجد نفسه مضطراً الى انتهاج مسلك القنوات التجارية لاستعادة نسب المشاهدة المفقودة أو الزيادة فيها؟ وهذا المنحى يعني التنازل عن بعض الخيارات البرامجية التي تقوم عليها فلسفة القطاع العمومي، باعتباره الضامن للجودة وسلامة الذوق ونشر القيم الاجتماعية. إنها معادلة صعبة تتمثل في ضرورة الاضطلاع بالوظائف الموكولة إلى القنوات العمومية والحرص على ضمان حد أدنى من المداخيل الاشهارية والموارد الذاتية، بالاضافة إلى الموارد الممنوحة من الدولة عموماً. إن هذه الاشكالية تحيل على إشكالات أخرى مرتبطة بمحتوى الخطاب "الثقافي" السائد اليوم عبر الاعلام الغربي الراهن، ومنه بالخصوص الاعلام التجاري. إن المتأمل في هذا الخطاب يدرك أنه يقوم في جانب كبير منه، خصوصاً في القنوات الخاصة، على "ثقافة الترفيه" التي لا تخلو في بعض الأحيان من العنف، على رغم ان العديد من الدول شرعت، من خلال هيئات مراقبة قانونية، لمقاومة هذه الظاهرة. المستقبل الثقافي في وسائل الاتصال اعتباراً إلى ما تقدم تحليله، يحق أن نتساءل عن مستقبل الثقافة وملامحها في وسائل الاتصال في ضوء تنامي النزعة التجارية. فهل من أمل في ألا تبقى المادة الثقافية مصدر ازعاج بالنسبة إلى المبرمجين الذين يخشون دوماً من تأثيراتها السلبية في نسب المشاهدة فيضطرون إلى بثها في ساعات متأخرة من الليل؟ هل سنشاهد مستقبلاً على شاشات التلفزيون المسرحيات والبرامج العلمية والثقافية والمطارحات الفكرية بما يفي بحاجة الجمهور المتعطش إلى المادة الثقافية؟ وماذا عن ثقافة الشباب؟ هل ستواصل القنوات اعتبار هذه الشريحة مجرد مستهلكين أم أنها ستعدّل من جموح منطق الربح عندها لتساهم في تثقيفهم وتيسّر انخراطهم في تيار الحداثة؟ قد لا نقدر على تقديم إجابات ضافية حول هذه المسائل، لكن بالامكان ابداء جملة من الملاحظات والخواطر. فبخصوص حضور القضية الثقافية في وسائل الاعلام ولا سيما في التلفزة، نشير إلى تنامي العولمة وجموحها الاقتصادي سيكونان، في تقديرنا، حافزاً في مستوى الدول على مزيد إبراز الخصوصيات الثقافية في ظل تنافس عالمي سيزداد حدة وضراوة. ومن المؤمل أن ينعكس ذلك ايجابياً على الصناعات الثقافية الوطنية التي سيسعى القائمون عليها إلى تجويد الانتاج والالتصاق أكثر فأكثر بالواقع المحلي والوطني، وبالتالي التعبير عن شواغل المواطن وطموحاته. ولا شك في ان ذلك من مفارقات العولمة التي نمت الحمية القومية وعمقت الشعور بالهوية وعززت الحنين إلى الجذور. وفي هذا السياق، يجدر بنا أن نذكر نتائج دراسات أجريت بشأن عادات المشاهدة في عدد من البلدان حيث تبيّن ان الأعمال الوطنية المتميزة - مثل تلك التي أنجزها عدد من تلفزيوناتنا العربية - تلقى لدى الجماهير رواجاً أكبر من الروّاج الذي تجده برامج أجنبية. أما في ما يتعلق بالوظيفة الثقافية لوسائل الاتصال، فإن المنطق يفرض الإقرار بأن القنوات الوطنية تحافظ على هذا الدور. وقد يؤدي اختلال التوازن الثقافي بين القنوات إلى تدخل الدولة التي ستواصل القيام بدور الحكم. ويرى بعض المحللين ان تدخل الدولة أصبح اليوم مطلوباً وربما أمراً ضرورياً بحكم تنامي العولمة الاقتصادية وتراجع مفهوم "الدولة المجتمعية" L'Etat Societal. وفي ضوء هذه التطورات المحتملة، قد يكون لمفهوم "دولة الثقافة" وزن أكبر ودلالات أعمق في المستقبل. وبخصوص حضور الانتاج الثقافي في التلفزيون، لا بد من الاشارة إلى ان القنوات ستكون دوماً في حاجة إلى هذا الانتاج، خصوصاً الجيد منه. ومن المؤكد أن الرغبة فيه ستزداد ازاء الارتفاع المتواصل الذي سيشهده عدد القنوات، ولا سيما المتخصصة منها، بفضل التقنيات الرقمية. ويصعب، في نظرنا، أن تفضي هذه الطفرة الكمية إلى زيادة في حجم الانتاج الذي قد تتفاقم أزمته بسبب تواصل الاختلال بين العرض والطلب. غير ان انتشار أدوات الثورة الاتصالية على نطاق أوسع في ظل المجتمع الاعلامي ستسفر عنه تغييرات أكثر عمقاً في السلوكيات الفردية والجماعية. ويرى البعض ان اتساع مجال استخدام "انترنت" في المستقبل القريب قد يجعل عدد "أسرى الآلة ومجانينها" في تزايد مستمر. ويخشى أن يؤدي هذا الوضع إلى بروز مواطن انعزال ثقافي تُعيق التواصل المباشر بين البشر. فكل الناس يتخاطبون مع بعضهم البعض ولكن لا أحد يلتقي بالآخر. كما يخشى أن تفضي التقنيات الافتراضية إلى إلغاء العلاقة المادية والحميمية بين الفرد والمنتوج الثقافي سواء كان وثيقة مكتوبة أو رسماً أو متحفاً أو معلماً تاريخياً. دور المنظمات والدول في صياغة النظام الاتصالي والثقافي الجديد إن التحولات الاتصالية سائرة نحو مزيد من التنامي في المستقبل، وسيكون لها الأثر العميق في صياغة النظام الثقافي العالمي الجديد. وليس من المهم، في نظرنا، أن نطيل التفكير حول خلفيات هذا الواقع الجديد ومنطلقاته، بل الأهم هو أن نحسن التعامل معه من موقع الفعل والمبادرة وأن تستغل الفرص التي يتيحها للانخراط فيه لأن التقوقع والانطواء على النفس ورفض الآخر لن تؤدي إلا إلى الاقصاء الذاتي. إن التفاوت بين المجتمعات لا يتجلى فقط في مستوى السيطرة على تكنولوجيات الاتصال وامتلاك وسائله، بل وكذلك على صعيد القدرة على استشراف المستقبل واستقراء تحدياته ورهاناته. قد يقف الجميع يرقب الآتي القريب ولكن: كل من موقعه وحسب وسائله، البعض من أعلى جبل "القرية" والبعض الآخر من مراصد تختلف درجات ارتفاعها باختلاف مستويات الوعي والامكانات الذهنية والمادية. ومن البديهي القول إن المنظمات الدولية والاقليمية وفي مقدمها الأممالمتحدة واليونسكو تضطلع بمسؤولية كبيرة في صياغة النظام الاتصالي والثقافي العالمي الجديد على أسس التوازن والتكافؤ والتعددية وكذلك اعتماداً على الحوار بين الثقافات باعتباره مصدر نشر لقيمة التسامح ولحق الاختلاف ومقوماً من مقومات الأمن والاستقرار في العالم. وإقامة هذا الحوار تستوجب وضع الآليات والهياكل الضرورية، وفي هذا السياق حريّ بنا أن نذكّر بدعوة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى انشاء مركز متوسطي للحوار الثقافي نظراً إلى ان الفضاء المتوسطي المشترك يعد نموذجاً لتجسيم هذا الحوار. إن دور هذه المنظمات على أهميته لا ينفي في نظرنا دور الدول التي أصبحت، بحكم تنامي العولمة الاقتصادية، مطالبة أكثر من ذي قبل بمزيد من التدخل في الشأن الثقافي وذلك بالاضطلاع من ناحية بوظيفة المعدل لتأثيرات العولمة الاقتصادية، ومن ناحية أخرى بوظيفة المشجع على مزيد تطور الانتاج الثقافي والفكري عبر صناعات ثقافية فاعلة ومشعة، بالتوازي مع تنمية مجالات الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيات الاتصال. وبالاضافة إلى ذلك، يمكن القول إن دور الفرد المبدع سيكون حاسماً في دعم التنوع والتفرد الثقافي وبالتالي الاسهام في ازالة شبح النمطية المخيف.
ان تهيؤ الإنسانية للانتقال من قرن إلى قرن ومن ألفية إلى أخرى، بما يحمله ذلك من رموز وآمال، من شأنه ان يشحذ الهمم وينمّي الخيال. ألم يصبح الادب والسينما والمسرح والصور المتحركة، وحتى ألعاب الفيديو، حقول تجارب لهذا الخيال الذي تحول إلى مخزون ثريّ لفرضيات مستقبلية ممكنة؟ لسنا ندري، ربما يحمل لنا الخيال بدائل لمستقبل أكثر إشراقاً. هذه المرة لن يتغذى الخيال العلمي والأدبي والفني من الرعب النووي، كما كان الشأن غداة الحرب العالمية الثانية وابان الحرب الباردة، بل سيتغذى من دون شك من فتوحات الإنسان المتتالية وطموحاته اللامتناهية وقدراته العجيبة على التجاوز والتجدد. قد يصبح الإنسان بروميثيوس القرن الحادي والعشرين... ذلك هو المؤمل. * رئيس المجلس الأعلى للاتصال في تونس والرئيس السابق لاتحاد اذاعات الدول العربية.