1 اليوم دخلنا ثلاثاً الى الجامعة: أنا ومنال وغادة، ضحكت متسائلة، إذا كنا كل يوم سندخل باضافة شخص الى المجموعة، فستحصل تظاهرة على الطريق. توقفنا قليلاً مع بعض الزملاء قبل التوجه الى القاعة، وعندما وصلنا اكتشفنا ان علينا الجلوس في المقاعد الخلفية لأن هناك من سبقنا وحجز الصفوف الأمامية، أزعجني الأمر كثيراً، خصوصاً أنني معتادة منذ صغري ان أجلس في الصف الأول، لكني اضطررت الى الاذعان لم أكن وصلت بعد الى خيار عدم الحضور. الدكتور الذي دخل علينا كان مظهره مميزاً، يناهز الخمسين، يرتدي بنطلوناً خمري اللون مع جاكيت زيتية وربطة عنق معرّقة، يبدو أنه وضع "الجل" على شعره، وقد انتشرت رائحة عطره في الصفوف الأمامية ووصلتنا أخبارها نحن في الصفوف الخلفية. تكلم كثيراً عن كل شيء ولا شيء، تكلم عن مآثره في العمل وعن أهميته، وعن حادثة حصلت معه حين أرسلوا له طائرة خاصة من فرنسا للسفر واجراء عملية جراحية لا يحسن غيره القيام بها، وأمور كثيرة مشابهة... وفجأة علا التصفيق. كانت مجموعة من الطلاب الجالسين في الصف الخلفي، تصفق للدكتور تشجيعاً واعجاباً بانجازاته. خفت كثيراً فهذا هو اليوم الأول ولا يجوز أن نتسبب بمشاكل مع أستاذنا وأن يبدأ الطرد منذ المحاضرة الأولى، ولكن ماذا أسمع؟ الدكتور يشكر الطلاب ويتابع الحديث قائلاً ان المجاملات لا تهمه بقدر ما تهمه الأعمال؟ هل هو يسخر منا أم يسخر من نفسه؟ التصفيق يعلو مرة ثانية، وهذه المرة زاد عدد الطلاب المشاركين. نظرت الى الدكتور فإذا به يبتسم. بقي الدكتور مبتسماً حتى هدأت القاعة وصمت الجميع، هذه المرة قال: افعلوا ما يحلو لكم ولكن rira bien qui rira le dernier، ثم قالها بالعربية: يضحك كثيراً من يضحك أخيراً. قالت منال بعد خروجنا من القاعة، ان اختها أخبرتها بحدوث أمور من هذا النوع وأن الطلاب في الجامعة ليسوا مسؤولين لا من ناظرة ولا من مدرس ولا حتى من إدارة إلا في الأمور الكبيرة. الأمور الكبيرة؟ وهل كل ما حصل كان أمراً صغيراً؟ لو أن هذا الأمر حصل عند مدرسة الرياضيات في الثانوية لكانت طردتنا اسبوعاً على الأقل، وكنا أحلنا الى مجلس تأديبي. لا زلت أذكر يوم خرج الأستاذ مصطفى من الصف لتسلّم رسالة وافتعلنا ضجة في الصف لغيابه، لقد دخلت الناظرة قائلة: "ناقص علامتا سلوك لكل الصف، وفي المرة القادمة يصل الأمر الى المديرة". ومنال تقول: أمور كبيرة؟ لا تزال الجامعة في بدايتها، وسأعرف عنها أكثر مما عرفته وان كان ما عرفته في هذين اليومين ليس بالقليل. 2 انه يوم الخميس، لم أذهب الى الجامعة فقد كنت مريضة، لذا طلبت من منال أن لا تمر لاصطحابي. شعرت بالملل في البيت، إذ لا يوجد ما أفعله. قلت اراجع المحاضرات التي أخذناها، ولكن للأسف، فالكتب المقررة لم تطبع بعد وعليّ الانتظار، كما أن المحاضرات التي اسجلها داخل الصف غير كافية لأني لا استطيع أن أسمع بوضوح وحتى أن أرى ما يكتبه الدكتور على اللوح، خصوصاً أنني أجلس في الصفوف الخلفية. ضحكت من نفسي، فلقد تذكرت يوم تشاجرت مع زميلتي في المدرسة لأنها جلست مكاني في المقعد الأول بحجة أنها نسيت نظاراتها في البيت، قالت لي انها لا تستطيع الرؤية من الخلف، فأجبتها: "وهل من الضروري أن تري كي تفهمي، المهم التركيز وسماع الأستاذ". طبعاً أنا ما زلت عند رأيي، فأنا في الجامعة لا أرى لكنني أيضاً لا أسمع. صحيح ان الدكتور يستعمل الميكرو، ولكن من قال ان زملائي الجالسين حولي يسمحون لأحد أن يسمع، فأحاديثهم أهم، ومن قال ان الحديث عن ال diffژrentielle أهم من الحديث عن المقلب الذي نفذه فؤاد، لقد أمضى الوقت يتحدث عنه بإسهاب: كيف دعي الى السهرة عند صديقه محمد المشهور بالنوم المبكر، وفعلاً فقد نام محمد بينما كان فؤاد لا يزال بضيافته، طلبت منه أم محمد نقل ابنها الى غرفته لأنها لا تستطيع ذلك. حاول فؤاد ان يحمله فلم يستطيع فأوقفه ومشى به نائماً، وبينما هو يدخله الى غرفته خطر له أن يدخله الى الحمام، ولم يتردد في تنفيذ فكرته العبقرية هذه، وإذا بمحمد يرفع رجله ويضعها في المغطس، وبعد قليل ينام في المغطس. ضحكنا كثيراً وإن كنت لم أصدق فؤاد، الذي أكد أنه صوّر محمد وحالما يتم تظهير الفيلم سوف يرينا الصورة. وعلى سيرة الصورة، تذكرت لمياء أن ترينا صور زفاف اختها وطبعاً امتد الحديث وتشعب، فأختها لم تكن تريد الزواج من عصام، لكن زوجة والدها أصرت فقبلت الخطوبة، وخلال فترة الخطوبة أحبته. كانت حفلة الزفاف جميلة جداً، ارتديت فستاني الأحمر الذي كان أهداني إياه والدي بمناسبة نجاحي، أمضيت الليل بطوله وأنا أرقص، حتى أن عازف الأورغ، ودلّت اليه في الصورة، قال اني أرقص مثل سمارة لكني أخبرته أني أفضل داني بسترس... سميرة ابنة عمي لم تعجبها الحفلة، هي دائماً هكذا...". الوقت يمر ببطء، في الجامعة لم أكن أشعر بمرور الوقت، اذ لم يكن هناك وقت من دون عمل، حتى وقت الراحة كنا نكتشف فيه زوايا الجامعة الكبيرة، لقد جلنا في كل الجامعة الا الكافيتريا، لم نقترب منها بعد، حتى أننا كنا نشتري من أبو علي كل ما نريده، فهو يملك دكاناً قرب الجامعة، ونحن، أي أنا ومنال وغادة، كنا قررنا عدم الاقتراب أو الدخول الى الكافيتريا كي لا نرسب، واعتدنا على "عمو" أبو علي وأخباره مع عائلته التي كان يطعّمها دائماً بنكات لطيفة. 3 كنا اتفقنا أنا وغادة أن نذهب الى الجامعة بالاوتوبيس، وكثيراً ما أجلنا هذه الفكرة لأسباب كثيرة كنا نحسن اختلافها ونقولها بصوت مسموع لنؤكد أن هناك أسباباً تمنعنا من ركوب الاوتوبيس مثل: "انه مليء، لا يتسع لنا واقفتين"، "الوقت تأخر ولن نصل الى الجامعة" الخ... أما اليوم فلم نستطع تنفيذ الاتفاق بسبب الطقس الماطر، انها أول مرة تمطر هذه السنة، وأول مرة لا نقول السبب بصوت عال... كان واضحاً. قلت لغادة اني أفضل فصل الشتاء على كافة الفصول فوافقتني الرأي، كنت سعيدة جداً بهذه الصداقة مع غادة. نذهب ونعود سوياً، أصدقاؤنا مشتركون... لا نفارق بعضنا بعضاً لحظة واحدة، حتى قالت لنا لمياء مرة أن الجميع يسمينا التوأمين. عندما وصلت الى الجامعة شعرت أنه المرة الأولى التي أراها فيها. كانت الأرض موحلة والهواء يلاعب الأبواب والنوافذ بقوة فتصدر أصواتاً مخيفة، أما قاعة الدراسة التي تقع في آخر الجامعة، في غرفة أرضية معزولة، فبدت لي من بعيد وكأنها زريبة... أو كما يسميها الطلاب القدامى "اسطبل عنتر". دخلنا الى القاعة الغاصة بالطلاب، لم نجد مكاناً نجلس فيه حتى نادانا شادي، الذي كان دوره في حجز المقاعد هذا اليوم، فنحن شكلنا بقيادة لمياء مجموعة، على كل شخص منها القيام بحجز مقعد كامل للمجموعة مرة في الاسبوع، ولأني وغادة لا نفترق كان علينا أن نأتي مبكراً مرتين. لم يكن اختيار شادي موفقاً، لأن مياه المطر كانت تتسرب الى القاعة، وبالتحديد الى مقعدنا، مما اضطرنا الى استعارة سطل من "أبو علي" ووضعه على الطاولة، كما فعل كثيرون. الجامعة التي أتحدث عنها هي المبنى الموقت الذي انتقلت اليه كلية العلوم في الجامعة اللبنانية، طيلة أحداث الحرب اللبنانية وحتى ترميم المبنى الأساسي. كان الدكتور مستغرقاً في الشرح على رغم ضيق المساحة التي يتحرك فيها لتفادي المطر، حين سمعنا صوتاً نسائياً قوياً، صاحبته أصوات كثيرة. لأول مرة أفرح لجلوسي في المقعد الخلفي، ذلك أني استطعت الانسحاب من القاعة لأفاجأ، في الخارج، بزميلتي تمارا محمولة على الأكتاف ووجهها مغطى بالدماء. - وقع الزجاج على رأسها. - اطلبوا اسعاف... من معه سيارة؟ هيا أسرعوا... ركضت الى القاعة، دخلت من الباب الأمامي أصرخ بلهفة: "دكتور... الزجاج وقع على رأس تمارا". أجاب ببرود: "فليأخذها من يملك سيارة الى أقرب مستشفى. لا أريد ضجة. سنكمل الشرح". 4 غيرتنا حادثة تمارا كثيراً، على رغم أنها لم تكن أكثر من زميلة لنا في القاعة. كنا نتتبع أخبارها بخوف كبير، خصوصاً ان وضعها دقيق ولا يوحي بالاطمئنان. صار الوضع في الجامعة محور أحاديثنا، وهذه المرة كنا نحكي عن الأمور بجدية واضحة، بعيداً عن الاستهزاء والتعليق الساخر. - البارحة وقع الزجاج على رأس تمارا، وقد يكون أحدنا الضحية في المرة القادمة. - ليتنا ندرس في القاعات الخالية من الزجاج. - وكيف نحتمي من الشتاء؟ - كما نحتمي الآن، نضع السطول. - المشكلة يا جماعة ليست مقتصرة على الزجاج، هناك المحاضرات، يعني الدراسة، السبب الذي من أجله نحن هنا. - قالوا لي أن المطبوعات ستكون جاهزة قبل الامتحانات. - قبل الامتحانات؟ بكم ساعة؟ نريد أن ندرس، يكفي ما نسمعه عن صعوبة هذه السنة. - هل تعرفون أن معظم الطلاب في قاعتنا من المعيدين؟ - بشرى خير. قطع الحديث وصول مازن، الذي كان يتابع أخبار تمارا: - رقبتها مصابة بشكل بالغ، لن تستطيع متابعة هذه السنة. - هل ستتكفل الجامعة بها؟ - علمت ان والدها زار المدير، لا أعرف ماذا حصل. عند هذا الحد، انسحبنا أنا ومنال وغادة، بقينا ساكتات فترة قصيرة قبل أن يأتي أحدهم ويسلم على منال بحرارة: - أعرفكم على بلال، معنا في الجامعة... سنة أولى أيضاً. - تشرفنا. مشينا سوياً، وأخذت منال تحكي لنا كيف تعرفت إليه، وهو يقطع حديثها ليضيف بعض النكات... - تعرفت إليه عندما ذهبت إلى غرفة المطبوعات أسأل عن المحاضرات... تعبت من الانتظار واقفة، فجلست على الدرج. بعد لحظات فوجئت به يضع 500 ليرة في يدي ويقول: "الله يعطيك". ضحكنا كثيراً، واستمرت جلستنا مع بلال أكثر من ساعة، اتفقنا خلالها ان يقوم بتعريفنا إلى مجموعته في الغد، مؤكداً ان جميعهم "اوادم" مثله. ضحكنا من جديد، وفي طريق العودة أبدينا أنا وغادة ارتياحنا لهذا الشاب، ثم غيرنا الحديث إلى موضوع أكثر أهمية، وهو الاتفاق على الساعة التي سنذهب فيها غداً إلى الجامعة... لأن حجز المقاعد كان علينا. 5 اليوم كان دوري أنا وغادة للذهاب باكراً إلى الجامعة، وحجز المقاعد، باكراً يعني الساعة الخامسة صباحاً. أوصلنا أبي بسيارته، كان الظلام مخيماً، دخلنا إلى الجامعة ملتصقتين من كثرة الخوف، كان طلال يوزع أرقام المقاعد على القادمين، كل حسب ترتيب وصوله، رقم مقعدنا كان 10 يعني في الخلف، لو وصلنا متأخرتين أكثر كنا بالطبع سنتابع المحاضرة وقوفاً، كما حصل المرة الماضية. بعد أن أخذنا الرقم، توجهنا إلى مقعد وجلسنا نتكلم لنطرد النعاس، لكن صوتنا أزعج القطة التي كانت نائمة تحت المقعد فقامت تنوي تغيير مكانها ومن دون ان تدري داست على رجلي. صرخت ولم أتأخر في البكاء، قلت في نفسي بعد ان غيرنا مكاننا: هذه ليست حياة جامعية، انها قصص بوليسية نمثلها. لم أصدق ان الساعة صارت الثامنة إلا عندما جلست على المقعد رقم 10، جلس وائل قربي، شكرني لأني حجزت له مكاناً، فقلت له إن هذا المكان هو للمياء، وأنها لم تأت بعد. كانت محاضرة رياضيات، دخل الدكتور وبدأ يكتب على اللوح، انتظرت حتى يبدأ الشرح لأكتب، ولكني فوجئت به يمحو ما كتبه. التفت إلى وائل الذي كان كتب كل شيء، قال لي: "اتركي صفحتين واكتبي، اعيرك دفتري لاحقاً". نظرت إلى غادة التي لم يكن حالها أفضل مني، هززت رأسي وقلت ضاحكة: في الصباح نلعب "غميضة"، وأثناء المحاضرة "لقيطة"، ضحكت أكثر للتشبيه الذي خطر ببالي، عدت فضحكت أكثر عندما بدأ الدكتور يمحو اللوح من جديد. سألت وائل: هل أترك صفحتين هذه المرة أيضاً؟ فقال: اتركي انت ثلاث صفحات، وأنا سأترك صفحة. بعد انتهاء المحاضرة التي لم أفهم منها شيئاً، بدأت أسأل الطلاب الذين يعيدون سنتهم الدراسية، عن دفاترهم أو عن اسم كتاب يمكن الاستفادة منه، فقالوا إن ما شرحه الدكتور يكفي إلى ان تطبع المقررات. علقت فتاة قائلة: "حتى تنجحي، عليك أن تسجلي المحاضرات هذه السنة وتفهميها السنة المقبلة". قالت منال: ما رأيكن لو ذهبنا لشراء المناقيش من المطعم المجاور؟ اعجبتنا الفكرة، خصوصاً اننا كنا نود الهروب من زاهي وعماد اللذين وجدا فينا، ربما فريسة سهلة لشرح نظرياتهما في الحياة الجامعية، التي لا تعني شيئاً أكثر من اللهو والمرح وحكي النكات. قلت لمنال: يبدو وائل مجتهداً، فهزت رأسها بالايجاب، وقالت: هو متخرج من الجامعة الأميركية، لكنه يحب الطب فتسجل هنا سنة تحضيرية قبل أن يتقدم إلى امتحان الدخول. سألت متعجبة: كيف عرفت كل هذه الأمور؟ "البارحة، جلسنا طويلاً وتحدثنا". نظرت إليها ضاحكة، فضحكت غادة. امسكت المنقوشة بيدي وانهمكت في تناولها.