طلبت مني الدكتورة «ماريان فرانكلين» في منتصف المحاضرة أن أُسمعهم النشيد الوطني السعودي. كنت بين عشرين من الطلبة من مختلف دول العالم، ليس بينهم عربي غيري. كان هذا في قاعة المحاضرات، حيث كنت أدرس في كلية «غولد سميث» في لندن تخصص «الاتصالات العابرة للقارات والإعلام الدولي»، وكان الحديث حول الهويات القومية والدول. ابتسمت، وتحركت من مقعدي لأقف، احتراماً لما سأفعل، وأُسمعهم نشيدنا. كان الهواء البارد يتسلل من الشباك خلفنا، الذي يطل على الحديقة الخلفية لمبنى الكلية الرئيس، والدكتورة فرانكلين بهيئتها الإنجليزية النبيلة تقف بابتسامة منمّقة. وكان الجميع ينصت، الهولندية، والأميركي، والكازاخستانية، والإسباني. اعتقدت أن الكلمات التي قد يكون الأغلبية فهمها بالعربية هي كلمة المسلمين في «عشت فخر المسلمين»، وربما «الله أكبر»، هكذا شعرت. سبقتني في النشيد الوطني زميلتي الأرجنتينية مارينا، وبعدي زميلي الهندي أسد، الذي أطربنا بأغنية ولحن هندي تماماً، وأمتع الجميع الذين تمنوا ألا ينتهي. ذلك اليوم تحديداً، طرأت فكرة الولاء كثيراً على مخيلتي. كيف يكون شكل الولاء؟ هل هو ذاك الإحساس الذي يجعلك تحب وطنك أكثر، وأنت تعيش مواقف عدة كالذي حصل معي آنفا؟ فكرة الانتماء لبقعة معينة مرسومة، ويرتفع على أرضها علم؟ أم هو جواز السفر الذي في حقيبتي؟ أم شعوري وأنا أرى صدفة طائرة الخطوط السعودية تحط في مطار دولي وكتب عليها «ربّ يحفظك»، فأقول في سرّي «.. يا بلد». أم هو ذلك القلق الذي داهمني نفس الأسبوع، حين ناقشنا الانتخابات في محاضرة الدكتور «ديس فريدمان»؟. كان الجميع يشارك في مقارنة الانتخابات بين بلده والبلدان الأخرى. وكانوا نشطين في طرح التجارب. ولم يكن في جعبتي شيء، سوى الانتخابات الأميركية، التي تدور رحاها وندور في فلكها مع نهاية كل فترة رئاسية لرئيس أمريكي. حتى أنني أعيش تفاصيلها تماماً، مثلما كنت أقرأ وأتابع مناظرات ماكين وأوباما، وأخبار هيلاري كلينتون، وسارا بيلين وتسريحة شعرها والنكات التي تُطلق على تصرفاتها. حتى أنني كدت مرة أن أشارك في التصويت لأوباما في شارع «إم ستريت» في واشنطن قبل سنوات، حين استوقفني شاب أمريكي أبيض يسألني: نحن ندعم المرشح أوباما، هل تضيفين صوتك؟، بكل تأكيد!، ممتاز تفضلي معي.. حسناً، لكنني سعودية!. ضحك الجميع. سألتُ فتى «أسود» يقف قريباً منا: هل ترشح ماكين؟ ضحك وقال: هل يبدو عليّ ذلك؟! وفي المحاضرة أيضاً كنت أتحاشى أن يأتي دوري في شيء يتطلب الحديث عن تجربة البلد في الانتخابات، أي انتخابات. وكنت أتمنى أن يحدث زلزال خفيف فجأة يكفي لابتلاعي أنا وحدي، أو أن أهرب من القاعة. لكن دوري أتى حين طُلب منا أن ننقسم لمجموعات صغيرة نناقش تجاربنا. قلت، بطبيعة الحال، نظام بلدي ملكي، لكن لدينا تجربة الانتخابات البلدية، ولم أضف شيئاً ذا قيمة عنها. وبالتأكيد لم أقل لهم إنني كامرأة لم يكن ليصح لي المشاركة في تلك الانتخابات، بالطبع ذلك الوقت. وتعمدت ترك جانب من الحقيقة في مساحة داكنة، لكي لا أتعرض لإحراج أمام تلك التجارب الغنية التي يتحدثون عنها. ولكي لا أخدش، حيث اعتقدت، صورة الوطن في محفل طلابي شبابي محلق. واليوم بعد سنوات من التجربة الانتخابية الأولى، سعدت كثيراً بكلمة خادم الحرمين الشريفين أمام مجلس الشورى والقرارات التي أتت لصالح المرأة في عضوية المجلس، إضافة لانتخابها وترشحها في المجلس البلدي. كما تمنيت كثيراً بأن نكون، أسوة بباقي الكون، نقود سياراتنا كما حياتنا دون أن نكون عنصراً تابعاً للرجل في جميع الظروف وأحلكها. بل تكون المرأة نصف المجتمع الحقيقي، وهي تتأهب لتجربة سياسية جديدة تماماً. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتفق جميع شرائح مجتمع ما حول نقطة معينة تخص نمط الحياة والمطالب، لكن بالتأكيد هناك مساحة للجميع ليعيشها بالطريقة التي تجعله راضياً بمساحته. الولاء والانتماء هو هنا محط القلب، للأرض وللوطن وكل ما من شأنه أن يجعل الجميع يعيش في سلم ورضا. حتى نتفرغ لشؤون أكثر عمقاً، وننشغل بما ينشغل به العالم من قضايا تقدمية. قالت لي زميلاتي: لابد أن تترشحي لعضوية مجلس الشورى! قلت لهن: لا بد أنني سأتطلع لقرارات تتفق وقيمة هذا القرار قريباً.