عشر دقائق فقط تفصل بين استيقاظها وخروجها في التاسعة وعشر دقائق مدفوعة بما يشبه القبضات المتلاحقة الى الشارع. تغادر بيتها ثم شارعها لتنحرف الى شارع "الترعة البولاقية".. وسرعان ما تعبر النفق الى "القللي"، منذ سنين وسنين وهي تعتبر مشوارها الصباحي رياضتها الوحيدة التي حافظت عليها، أمست تلك الرياضة جحيما يوميا مع جحافل السيارات والغبار والعادم وآلات التنبيه والترامويات والاتوبيسات وعربات الكارو. لم تعد تكره شارعاً قدر كراهيتها لشارع الجلاء، يعلوه جسر وفي نصفه يسير المترو ونصفه الآخر تنهبه كل أنواع السيارات وتخيم عليه سحابة لا تنقشع من الغبار الأسود. وانحرفت مرة أخرى الى مبنى الجريدة. وقّعت في الساعة الى اليسار واتجهت الى المصعد لتبدأ جحيماً آخر. تزداد ضجراً كل يوم من البرقيات السبع أو الثماني. تشهدها من آلة التيكرز وتمرر عينيها عليها. تكرر الوكالات الأخبار نفسها، ولو كانت "هويدا" معها لاكتفت هي بمراجعة الأخبار بعد أن تترجمها هويدا. لم تأت هويدا زميلتها في هذا "الشفت" الصباحي اللعين. لاحظت تعدد مرات تأخيرها وغيابها خلال الشهرين الماضيين. كانت بنتاً صغيرة لا تزال تحت التمرين، محجبة على طراز خريجات جامعات هذه الأيام، حيث تكتفي البنت بما يشبه "الإيشارب" تغطي به جانباً من رأسها. غير أنها راحت تفقد أناقتها الدقيقة التي ميزتها: عطرها ومكياجها الصباحي الخفيف وخصلات شعرها التي تحرص على أن تبدو نافرة على الرغم من الإيشارب. طالت فترات صمتها التي حيّرت بهية وحاولت استنطاقها دون جدوى، ثم اكتفت أخيراً بأن تقول لنفسها: لا بد أنها أحبت ولداً وتلك مشاكل الحب التي لا رادّ لها. ورديتها الصباحية تورطها كل طلوع شمس في ضجيج الأكاذيب الواردة من كل أركان المعمورة. كانت قد تجاوزت سن المعاش، وجددوا لها ثلاث سنوات متوالية. لا تدري كيف يوقع رئيس مجلس الإدارة، ورئيس التحرير قرار التجديد لها كل عام، أما قرارها هي: ألا تطلب التجديد، غير أنها لا تعرف كيف تقضي يومها إذا توقفوا عن التجديد لها. وتذكرت "إقبال" ابنة أختها التي ضاعت منها ليلة الأمس في العرس، وفكرت في الاتصال بها، غير أنها كبحت جماح رغبتها قائلة: انتظر قليلاً.. لا بد أنها نائمة لا تزال. إقبال وحدها طراز خاص من البشر، قالت بهية، ليست مثل ابنتي فقط. لو سمعت كلامي لبقينا معاً، أما شاكر - أخوها - فيستطيع أن يدبر حاله وحده. لم تفارقني إلا عندما سافرت، حضن أمها فارقته لما دخلت الجامعة واشتغلت بالسياسة، أما حضني أنا فلم تتركه حتى هذه اللحظة. على أي حال ها أنا قد أتيح لي أن أطمئن عليها في النهاية. هي الآن أمام عيني، تشد كل منا أزر الأخرى، فليس سهلاً عليها كل هذه الوحدة وقد شارفت على الأربعين دون حتى طفل. من المهم أن تعمل. أي عمل. ربما قبلوها في وكالة أنباء الشرق الأوسط بمكافأة شاملة، فلا تعيين اليوم في المؤسسات الصحافية إلا بواسطة "ثقيلة". الحل هو أن تعمل ولديها لغتان. المهم ألا تستبد بها حالات الاكتئاب مرة ثانية. وحين تخبرني أنها وقعت في الحب، استطيع أن استريح حقاً. إقبال تحتاج لمن يلمها في حضنه ويحبها فلا يرى سواها، فهي لا تقبل أن يشاركها أحد في الرجل الذي اختارته. وأنا في سنها، لا.. أصغر منها، ومنذ قرابة ثلاثين عاماً، كان زوجي "كريم" في سجن الواحات "الداخلية" لم تكن تسمح لي إلا بزيارة كل ثلاثة أشهر، فكنت أخذ ابني عرابي معي ونحمل حقائب ننوء بها أنا وهو، نركب من محطة مصر قطار الصعيد لننزل في اسيوط، ومن هناك نستقل قطاراً آخر يقطع الصحراء في نصف نهار، نبتلع كميات من رمل بالغ النعومة في حلقينا وأنفينا وملابسنا وشعرنا، ويحتضنني عرابي ونحن نضرب في صحراء واسعة تتخللها جبال الغرود الناعمة التي تنفرط أمام عيوننا لما تضربها الريح عبر نافذة القطار. أمرّ في كل زيارة على بقية الزملاء، واحدة تريد أن ترسل لزوجها دواءً، أو أم تحن لأن تعمل لأبنها أكلة يحبها، وخراطيش سجائر، وبعض الكتب إذا سمحوا بها، نحمل كل هذا أنا وعرابي، بعد أن نترك "فريد" - إبني الصغير - مع خالته منيرة. نهبط في محطة "الخارجة" لنأخذ سيارة أجرة الى "معتقل المحاريق"، يحتضننا كريم معاً أنا وعرابي، خجلاً كعادته أمام الآخرين حتى لو لم يكن قد رآنا منذ عام ونصف العام، كما حدث في المرة الأولى لزيارتي له، لقد وقف صامتاً يداري ابتسامته، واضطر للاستسلام ورفع ذراعيه لما احتضنته أنا. في تلك الفترة تدهورت ملامحه وأبيض شعره، بل وترك لحيته تنمو وبات أقرب الى ملامح جده الشيخ الأزهري عبدالله القطان الذي لعب دوراً ذكرته كتب التاريخ في ثورة 1919، وكان كريم لا يزال محتفظاً بصورته الصغيرة معلقة في حجرة مكتبه. هكذا قالت بهية لنفسها وهي ترفع سماعة التليفون تطلب قهوتها الثانية من البوفيه. نظرت للبرقيات على مكتبها، وزفرت قائلة إنها لن تمسها مهما حدث، حتى لو جاء شكري رمسيس رئيس القسم بنفسه، فهو على الرغم من كل شيء لا يستطيع أن يرفع عينه فيها، كان زميلاً لكريم في الواحات، ولما عمل في الصحافة بعد خروجه، التحق بصفوف التنظيم الطليعي شأن الكثيرين، وهي الغلطة التي ظل يحاول إصلاحها بعد ذلك، الى أن اتيحت له الفرصة بسفر السادات للقدس، فكان أحد اليساريين القلائل الذين أيدوا السادات وكتبوا يشيدون بحكمته الاستراتيجية التي بدأت بتضييق الدائرة حول عنق أكبر استراتيجي في العالم د. هنري كيسنغر منذ أول لقاء بينه وبين السادات بعد الحرب، يومها انتظرتُ حتى فرغ مكتبه تماماً وأغلقت الباب علينا، وعندما شاهدته منكمشاً على مقعده صرخت فيه: كل ده عشان الكرسي اللي أنت قاعد عليه، وتبخر غضبي ولم أجد ما أقوله له، غير أنني كنت خائفة أن أنفجر في البكاء، كان قد كتب صباح اليوم نفسه في الصحيفة أن السادات هزم إسرائيل في عقر دارها وألقى خطاباً يتضمن حقوق الأمة العربية في الكنيست، لكنه لم يذكر أن خريطة أرض إسرائيل التاريخية من النيل الى الفرات كانت خلف السادات وهو يلقي خطابه التاريخي. وبعد شهر واحد من عودة شكري رمسيس من إسرائيل عُين رئيساً للقسم الخارجي. ونائباً لرئيس التحرير، بل إن رئيس التحرير نفسه - بلعبة مشابهة - عينه السادات رئيساً للتحرير بين يوم وليلة في حادثة مشهورة. جاء عم صالح بالقوة وتركها، ومضى صامتاً كعادته، كانت قهوة بلا طعم مثل كل شيء هذه الأيام، فأشعلت سيجارة وقالت لنفسها: لو جاءت هويدا هذا الصباح، لكنا تكلمنا في أي شيء في أول الأمر كنت متحفظة بعد أن فوجئت بتعيينها معي في "شفت" الصبح الذي شغلته وحدي على مدى سنوات، لكنني سرعان ما اكتشفت أنها مثل كل بنات هذه الأيام، عاجزة عن فهم ما يجري أمامها، وستعيش عمرها كله على هذا النحو: تتركز كل هواجسها في الفوز بعقد عمل في الخليج قبل أو بعد الزواج لا يهم مثل شقيقيها اللذين سبقاها. تذكرت بهية ذلك الصباح القريب. كان مكياجها الصباحي ثقيلاً يشوه وجهها ورقتها التلقائية. وبعد أن اطمأنت إليها، فاجأتها مبتسمة تداري عينيها الثقيلتي الرموش: "إنتِ صحيح يا مدام بهية كنت شيوعية.." انفجرت بهية في الضحك وهي تردد: "آه شيوعية.. مين اللي قال لك؟". تمتمتْ وهي تغالب حرجها: "غريبة.. دي انتي.. يعني حضرتك يعني هايلة في كل حاجة.. مش مجاملة والله.." ربتت بهية على كتفها ثم قبلتها وقد هزها حنين غامض لاستعادة اشياء بدت كأنها انتزعت منها، بل كأنها سرقت. قالت: لن تأتي هويدا اليوم فيما يبدو.. أشد ما أخشاه عليها أن تكون قد ضعفت أمام إلحاح زوج أختها التي تقيم معها منذ أنجبت طفلها الأول. حكت لي إنه ترفع لنصب الكمائن لها في الحمام. وفي حجرتها وفي الصالة وفي المطبخ. في كل ركن مستغلاً انشغال شقيقتها بالطفل، كانت تحرشاته بها في الأيام الأخيرة قد غدت علنية تماماً فإلى أي مدى ستستطيع النجاة نفسها؟ سأكلمها في التليفون آخر الشفت. أوشكت سجائرها على النفاد، وألقت نظرة بطرف عينها على كومة البرقيات، أخيراً استسلمت ليدها التي اختطفت البرقية الأولى وعكفت على ترجمتها باهتمام مفاجئ.. واستغرقت شأن كل يوم لتنهي كل البرقيات مهما كان عددها. * كاتب مصري.