ليست النزعة العنصرية في اوروبا نظرية مضى عليها الزمن وتجاوزها الوعي المجتمعي المتأكد من حداثة فكره وانتمائه للرؤى والفلسفات الانسانية التي جعلت من الكائن البشري ذاتاً انسانية وفرداً مجتمعياً في اهتمامها وموضوعات عملها. فباعتبارها نذرية تحدد الأعراق بمنظور التصنيف والتراتبية بدون ان تستند الى أي قاعدة علمية سوى نزوع الافراد وتصرفاتهم الواعية أو اللاواعية نحو الاستعلاء. ولأنها تعتقد بضرورة الحفاظ على الجنس الأعلى وعلى مظاهر سيادته وتفوقه؟ بل على حقه المزعوم في الهيمنة والسيطرة على الأجناس الأخرى لتسخيرها وما ملكته لمصلحته، تتقدم العنصرية كظاهرة تاريخية تعصى عن الانقراض. خفتت أصواتها حيناً، وابدلت تمظهراتها حيناً آخر. ودائماً على حساب القيم الانسانية والثقافية، بالخصوص تلك التي جاءت بها الديانات والفلسفات، أو التي هيأتها النهضة والانوار الاوروبيتين، وتبنتها كل الثقافات المعاصرة تحت اغراء التحديث، أو بالهيمنة الاستعمارية والاقتصادية. والحال ان الاستعمار بقدر ما ساهم في تحديث وتجديد الوعي بالزمن الحديث في الثقافات والمجتمعات المستعمرة، بقدر ما كرس "رؤية دونية" للفئات المهاجرة التي استوطنت بلدانه آتية من المستعمرات السابقة، ورؤية اخرى، اكثر دونية سبقتها الى المجتمعات المستعرة في المرحلة الكولونيالية. بيد ان النزعة الراهنة مختلفة عن تلك التي حددت العلاقة بين المستعمِر والمستعْمَر. فقد تغيرت العنصرية في مظاهرها وفواعل استمرارها، بالخصوص لأنها لم تعد تستند الى الاعتبار العرقي ولون البشرة في المقام الأول، بل اصبحت تفشِ انتشارها بالمنظور الاقتصادي وتلاحم النسيج المجتمعي في بلدان اوروبية لم تعد تستطيع لأزمة اقتصادية تعيشها تحمل أفواج المهاجرين وتقبل استمرار توسع فئة الجيل الثاني الذي يولد في بلدان اوروبا ويستحق المواطنة. ولعل في هذين العنصرين: علاقة اوروبا بسابق مستعمراتها، والاوضاع الاقتصادية والمجتمعية ما يمثل اساس النزعة العنصرية المتنامية الآن، ومحفز الاحساس المتفاقم بنذير التمزق الذي تفرضه على البنيات المجتمعية في البلدان الاوروبية. اذ تؤجج مشاعر الكراهية ورفض الآخر وتفرض وعياً ثقافياً شقياً يلزم الحياة في الدول الاوروبية، ويصل بحداثتها المجتمعية الى مأزق القيم ومعنى الالتزام بها. لذلك لم يكن مفاجئاً ان يؤول العمل الذي قام به الاتحاد الاوروبي لمناهضة العنصرية ولتشجيع قيم التسامح بين أفراد مجتمعاته الهجينة بتعدد الفئات والاصول العرقية والثقافية والدينية واللغوية الى الفشل. باستثناء ما أعلنه من نتائج الاستقراء الذي انجزته المفوضية الاوروبية المكلفة بالشأن المجتمعي اوردت "الحياة" تقريراً عنه يوم 7 كانون الثاني/ يناير الجاري والذي يضع الناس والمسؤولين في صلب المشهد "العنصري" الذي تبدو عليه اوروبا اليوم. في جدية لونية: الابيض والاسود. وبعيداً عن وهم التعددية التي افترضتها حملة الاتحاد الاوروبي في بدايتها - بتبني شعار قوس قزح ليشمل كل فئات المجتمعات الاوروبية، كانت العنصرية أسبق للنجاح من الحملة في جعل الألوان السبعة شاحبة، ومعنى التسامح احساساً مريعاً بالغصة. اذ صرح اكثر من ثلثي المستفتين وعددهم ستون ألفاً نهاية السنة الماضية 97 - المخصصة لمناهضة العنصرية بأنهم "عنصريون" بل وأقرّ جانب منهم 22 في المئة بأنهم "عنصريون جداً" وانهم لا يرون حلاً لأوروبا وللمهاجرين، سواء للمقيمين بصورة شرعية أو لمن هم على خلاف ذلك، سوى "بالطرد" أو بتخليهم عن "ثقافتهم وديانتهم". واذا ما اعتبرت نتائج الاستقراء، وبالتالي نتائج الحملة برمتها "صاعقة" بالنسبة للمسؤولين الاوروبيين، فانها تتطلب حداً أدنى من الاهتمام والتساؤل العقلاني من العرب، على المستويين السياسي والثقافي، لأنها تعلن حالة ووضعية مرشحة للتفاقم في وجه بعض الدول التي تتوفر على نسبة عالية من المهاجرين العرب في اوروبا، والذين جعلوا من الاخيرة ومنذ زمن غير قريب مهجرهم الأول، وملاذهم الأقرب درءاً لجور السلطان، أو طلباً للعلم والامان، أو بالاساس مصدر رزق يكفل حياة كريمة عزّت في الوطن الأم. الى ذلك، قد تفهم النزعة العنصرية السائدة اليوم باستمرار صورة - أصل لها من التاريخ الانساني القديم وأنظمته الثقافية التي سمحت بانتشار اساليب السيطرة على الافراد والاستعداء على الاقوام المختلفين عن ذوات من يأنسون في انفسهم المنعة والسيادة لانتمائهم العرقي السامي. كما قد تكون العنصرية تجديداً لاواعياً في صلب الثقافة الغربية لمركزية الذات الاوروبية واحساسها اليوناني القديم بالتفوق والعقلانية من أرسطو الى نيتشه - بما يضعها في حالة النزوع الى الغاء الآخر - "البربري"، وتسخيره لمصلحة الأمة المتحضرة المنتمية لأوروبا - واعتبار هذا الاخر متخلفاً ابدياً. هذا على تقادم العهد وتبدل القيم الثقافية والمجتمعية، ومرور المراحل العديدة من تاريخ الرق. بل على رغم كل الخطابات التي فجرتها النزعة الانسانية غداة النهضة، وظهور فكرة "القانون الطبيعي" لاعادة الاعتبار الى الانسان وحقه في الاحساس بهويته المتفردة، وما تبع كل ذلك من حروب وصراعات دموية ليست التي عرفتها الولاياتالمتحدة مما ينسى. فما زال الوعي المجتمعي وجانب من السياسي يراوح مكان الصدأ في العلاقة مع الآخر المختلف. يشهد لذلك التقرير المشار اليه اعلاه - والذي هو تحصيل حاصل - والذي أكد تنامي النزعة العنصرية وما يرتبط بها من حالات التهميش التي تعيشها بعض الفئات المجتمعية المتميزة بلون بشرتها أو ثقافتها الغجر أو بحالات الاقصاء في حق المهاجرين والجيل الثاني المغاربيين بالخصوص من العرب المقيمين بدول كفرنسا وبلجيكا، بما يمنع هذه الفئات من الانتماء والانسجام مع دورة الحياة العادية في دول اقامتهم الحديثة!. العنصرية في اوروبا ما زالت في انتشار وتوسع. احكام مسبقة وتصنيف قبلي للأفراد والمجتمعات المختلفة. برؤية دونية أو طبقية تميز وعياً مجتمعياً بالهوية منشطراً على نفسه وملتبساً. بين المحافظة على الهوية وحق الاخر وبين التعبير عن ردة فعل ازاء الوضع المعيشي والاضطراب الاقتصادي المتمثل في البطالة، وكثافة الهجرة الى اوروبا، وضعف المؤسسات المجتمعية وخدماتها، الأمر الذي تشغله الاحزاب اليمينية المتطرفة والفرق الفاشية التي تزداد عدداً كالفطر، لتعيد النزعة العنصرية حتى وان كانت أقل استناداً الى مفهوم العرق. ان الحوافز الاقتصادية المعيشية بقدر ما غيرت شروط المجتمعات والافراد غيرت تصوراتهم وحولت مفاهيم حياتهم وتعاطيهم مع العالم. فتحول الاحساس الفردي وتنامي القلق على المصير جعل "العنصرية حجة للتعبير الدرامي على المأزق الثقافي والسياسي. تصرفها الذوات كرؤية وسلوك يستعيد وهم الاصالة ومعنى الانغلاق ليرفض الآخر المختلف - في وقت تآكلت فيه الوظائف السياسية للدولة والاحزاب في قدرتها على التأطير والوظائف الثقافية للمؤسسات وللمثقفين الذين اصبحوا لساناً للتعبير عن واقع الحال وليس عن ارادة تغييره. فللالتزام وتبني القيم الانسانية معنى آخر قد لا يكون انسانياً بالضرورة!