فرضت الاحداث الاخيرة بداية من فترة الحادي عشر من سبتمبر 2001 بالولايات المتحدةالامريكية وقائع جديدة، وفتحت او تكاد تقلب في اوراق مبعثرة من صفحات التاريخ، ماضيه وحاضره ومستقبله، خاصة لمن هاجروا منا نحن العرب واتخذوا من بلاد الغرب موطئاً لهم ان لم يكن موطناً يتأثرون به ولكن هل أثروا فيه. كما غيرهم من الجاليات الاخرى التي تلعب دوراً سياسياً واقتصادياً بل وأحياناً ثقافياً خطيراً في مجتمعاتهم النازحين اليها، فكانوا درعاً واقية لمجتمعاتهم من سياسات ونظم عالمية متقلبة لا ترحم الضعيف.. مما يطرح اشكالية كبيرة الا وهي لماذا اثر هؤلاء في مجتمعاتهم الجديدة بهذه القدرة الفائقة، ولم نؤثر نحن العرب في هذه المجتمعات؟ بل لماذا نعاني من المشاكل النفسية والاجتماعية وغيرها في هذه المجتمعات، وكيف نتغلب على هذه الصعاب وهل قامت البلدان العربية بمد الجسور لهؤلاء النازحين في بلاد الغربة والعمل على دعمهم سياسياً واجتماعياً وثقافياً في مواجهة التفرقة العنصرية التي قد يتعرضون لها. ان لم يكن تعرضوا لها بالفعل، رغم تخصيص وانشاء العديد من البلدان العربية وزارة بعينها للتعامل مع ابناء المهجر والوقوف على مشاكلهم والوصول لحل سريع لها وربطهم بالوطن الام. ان ما يتعرض له ابناء البسيطة اكثر من ذي قبل، لاحتمال الاقتلاع من جذورهم والتغريب عن ديارهم، فثقافة القرن الحالي الواحد والعشرين - ثقافة العولمة - متعددة الاوجه والآفاق، بالنظر لعولمة الاقتصاد وللتغييرات البيئية والانقلابات التكنولوجية، مما يضفي على ظاهرة الهجرة طابعاً اكثر دينامية وايجابية، فالانفتاح على الاخر سيدخل لا بد صلب المناهج الدراسية والتربوية التي ستتعدل وفق متطلبات العصر حيث سيحمل أي عمل انساني الطابع العالمي والمؤقت والخاص في ان يصبح ما بين الثقافي طريقة جديدة في التحليل والتعامل مع المشاكل دون التمسك بالخصائص الثقافية المانعة لرؤية الاخر وفهمه من منطلق شمولي واسع، والبدء بالعمل على النفس لتربيتها وتربيتها يبقى الاساس، والاضطلاع بالدور الريادي ليس غريباً عن شريحة المثقفين من المجتمع الذين فهموا ان الاشكالات المزمنة والمقبلة تتطلب لمواجهتها نظرة شمولية وطموحة وبناء لانقاذ الانسان والطبيعة التي تحتضنه من الاضمحلال في ظلمات الانانية وقصر النظر والعنصرية والظلامية وغيرها من آفات بشرية فتاكة، هكذا اشار تقرير مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان الصادر تحت عنوان ابناء الوطن في الخارج.. ما لهم وما عليهم.. واستطرد التقرير.. من هنا ينبغي تدارك كيفية تفعيل دور المثقفين، خاصة ونحن على يقين تام بان لاوروبا اليوم مصالح تفرض عليها ان تعترف بتعددية الحضارة الانسانية وعدم تسيير حضارتها على ما عداها، فحاجتها للعالم الثالث تفرض مد جسور جديدة معه وبناء علاقات ثقافية وسياسية واقتصادية من نوع اخر والقضاء على رواسب الماضي وتنمية مفاهيم وانماط اخرى للعلاقات الدولية لتحقيق التوازن المطلوب بعد غياب القطب الثاني الاتحاد السوفيتي، ونجاح ثقافة المقاطعة. لكن يبقى التساؤل.. هل يمكن للمهاجرين ان يلعبوا دور الجسور الحضارية عبر نقلهم اختلافهم الثقافي والحضاري الى اوروبا وهل ستقبل اوروبا هذا بارتياح؟ وأكد التقرير على ان الوعي الجماعي الاوروبي ما زال دون مستوى تقدم بعض شرائح المجتمع وتطور التكنولوجيا والصناعة وما زالت قوى الرجعية والتخلف شديدة العود، فرد الفعل الاكثر ظهوراً وفعالية هو الانكماش على الذات واقفال الحدود من قبل السلطات للحد من الهدر وتصعيد الطرد التدريجي بالطرق القانونية وغير القانونية، مع ما يستتبع ذلك من تحريك سلبي للرأي العام تجاه هذه المسائل ولعل الاحداث الاخيرة قد افرزت هذه الاشكالية بوضوح ولعل ما تتميز به اوضاع المهاجرين العرب في البلدان المستقلة بالهامشية من حيث مستوى العمل والاجر يساعد على ذلك خاصة في ظل قوانين جد مجحفة بحقهم اضافة الى مواجهتهم عدة مشاكل اجتماعية نتيجة ظروفهم السكنية الرديئة وتفشي البطالة وتدني المستوى العلمي عند الجيل المولود في الدول الغربية نظراً لنسبة الرسوب وترك المدارس، وارجع التقرير هذا الى النزعة المعادية للتيارات العنصرية والفاشية في اوروبا التي قامت باعمال انتقامية وممارسات ارهابية ضدهم لا سيما بعد احداث التفجيرات التي وقعت في امريكا مؤخراً الى ان جاءت احداث اكتساح قوات الاحتلال الاسرائيلية للاراضي الفلسطينية وما حدث في مخيم (جنين) الذي اكسب العرب بعض التعاطف مع قضيتهم وبالتالي انعكس ذلك على المهاجرين العرب، هذا الى جانب ان التمييز العنصري ضد المهاجرين يبرز في العلاقات الاجتماعية خاصة وان النسبة الاكبر منهم تتسم بعدم اتقان لغة البلد المستقل بسبب عدم دخولهم المدرسة في بلدانهم او انخفاض مستواهم التعليمي. كذلك اتهامهم بالسلفية الاسلامية مما يدفع العائلات الغربية لتحاشي المدارس المليئة بالمهاجرين واحياناً ادخال اولادهم المعاهد الخاصة، فلماذا هذه الفجوة ومن المسئول عنها؟ يتحمل الخطاب السياسي مسئولية كبيرة في التمييز العنصري رغم وجود تشريعات تعاقب من يحرض على الاستفزاز العنصري والحقد والحفز على العنف، ويتميز هذا الخطاب بالربط بين وجود الازمة وانعدام الامن بظاهرة الهجرة واتخاذ التدابير لايقافها، وتصعيب ظروف المجتمع العائلي، وترحيل بعض الفئات وتشجيع العمال للعودة الى بلدانهم وترحيل الراغبين منهم بشكل مجاني مع اعطاء مكافآت مالية على ان يلتزم المهاجر بعدم العودة، وتجاوز التمييز العنصري الى المس بالحريات الاساسية وحقوق الانسان وادى لاوضاع من اللااستقرار الدائم والتهميش المتعاظم في ظروف يجهل فيها كثير منهم حقوقهم خاصة وان قلة منهم تنتسب للنقابات والمنظمات الانسانية والتجمعات الحزبية وغيره وان كانت تدور في الكواليس روايات عن عدم تمكين المهاجرين العرب من دخول البرلمانات الاوروبية والغربية رغم حصولهم على الجنسية وقيام البعض منهم بتنفيذ مشروعات عملاقة فيها وهو ما يعد خطوات للوراء في العلاقات بين المهاجرين العرب ودول المهجر. ان وضع المهاجر النفسي صعب كما يمكن ان نستخلص مما سبق، يصبغه الشعور بالقلق للمستقبل والمعاناة من الغربة في مجتمع يرفضه كجسم غريب ويطالبة بالوقت نفسه بطمس ما يميزه وبالاندماج، بينما يشده انتماؤه للوطن وحنينه للاهل وذكريات الطفولة وبعده عنه عوامل كثيرة. والى ان يتم استيعاب البيئة الجديدة والتأقلم مع بعض جوانب الحياة اليومية تمر مرحلة يعيش فيها الفرد معاناة نفسية تختلف مدتها وحدتها باختلاف عوامل كثيرة تتحكم به، فمن ظواهرها الانكماش على النفس تجاه مجتمع غريب وثقافة تختلف برموزها وقيمها ومفاهيمها وعاداتها وانماطها السلوكية عن ثقافته، ولغة قد يجهلها او لا يجيد استعمالها، وبلد في مخيلته صورة طبعتها القنوات المختلفة للثقافة المتوارثة منذ القدم بما فيها الحقبة الاستعمارية وكل ما خلفته وعملت لاجله من استيلاب الاخر والهيمنة على ثقافته واشعاره بتفوقها وعظمتها. انهم يعيشون فكرياً وعاطفياً بعلاقة اقرب مع مجتمعهم الاصل من غيرهم، مما يعطي لوجودهم في البلد المستقبل احياناً طابعاً عابراً وهامشياً، فيعيشون على امل العودة بانتظار تغيير الظروف، وان كان البعض يلجأ لسلوكيات تتراوح بين هذين الطرفين تنجم عن تجميع لما هو مناسب من هذه الانماط او تلك بشكل خلاصة يمكن ان تكون متماسكة ومقبولة وذات معنى عند المعني بالامر، مما قد يعطي شكلاً ثقافياً جديداً يقتبس من الثقافتين الاشكال الافضل في عملية مزج وربط غالباً ما تكون ناجحة حيث ما تخرج النفس من هذه المعركة اكثر عنى وصلابة بمواجهة الحياة. ومن ثم تشترك طبيعة مشاكل فئة المهاجرين الدائمي الصلة بالبلد الاصيل بتحمل ظروف المعيشة التي ذكرنا مع ابناء الجيل الثاني أي ابناءهم المولودين في الهجرة، لكن تختلف عنهم في طريقة التعامل مع المجتمع الغربي والبحث عن حلول والعودة الى بلد الاصل. ان امتلاكهم للجنسية الايطالية او غيرها من الجنسيات الاوروبية قد لا يغير كثيراً من طبيعة وضعهم ومن درجة اندماجهم الثقافي والاجتماعي في مجتمع لا يقدم لهم ما يؤمن هذا الاندماج وانما العزلة والتهميش في بلدان لا تقبل بعد التعددية الثقافية والحضارية فحقوقهم التي هي مبدئياً حقوق المواطن الاوروبي تفرغ من هذا المضمون في الواقع والممارسة ويكون من مظاهرها احياناً البطالة وتصاعد نسبة الجنح بين صفوفهم بالاضافة لعدم لعب المدرسة دور التأهيل لهم. كما ان شعورهم بفقدان الجذور وبعدم الانتماء الكافي لبلد اهلهم يجعلهم يلعبون دوراً اساسياً في ثني هؤلاء عن العودة اليه. لذا ينبغي التفكير جيداً في مد الجسور الاجتماعية والثقافية والدينية بين هؤلاء الابناء وآبائهم لكي يتمكنوا من الانخراط في مجتمعاتهم الجديدة - الغربية - لكي يصبحوا قوة سياسية واقتصادية مؤثرة في مجتمعهم الذين يتخذون منه وطناً ثانياً الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا، ومن ثم التأثير في صناعة القرار السياسي لهذه البلاد ويكونوا نقطة الصد بالنسبة للسياسات المعادية او التي لا تتمشى على الاقل مع المصلحة العليا لقوميتهم العربية والاسلامية.