صبرا وشاتيلا في الذكرى ال19: أصواتهم واستغاثات أطفالهم ما زالت معلقة على الجدران بانتظار حكم الحق والعدالة زينب كريم تاريخ النشر 15 سبتمبر 2001 مر 19 عاما على أعنف مجزرة في تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية. إلا ان الزمن لم يتحول الى خدر ولا الذاكرة الى نسيان، فبقدر ما هو صحيح ان مجازر أخرى ارتكبت في تلك الحرب، بحق مدنيين من الجانبين، تبقى صبرا وشاتيلا نموذجا للفظاعة القصوى المرتكبة باسم ما بات يسمى ب«التطهير العرقي»، علما أن العمى الانتقامي الذي أصاب القتلة يومذاك لم يفرق بين الضحايا، لا من حيث الهوية ولا في الجنس وصولا الى المواليد قبل ان ترى النور. واليوم إذ تبدأ في بروكسيل احدى أصعب القضايا الحقوقية الدولية بين العرب واسرائيل في الدعوى المقامة على آرييل شارون لتحميله مسؤولية صبرا وشاتيلا، تدخل «الحياة» الى المخيمين من جديد، حيث لم يتغير شيء من حزام البؤس العتيد، ولا خفتت حدة الألم الذي خلفته المأساة. ذهبنا الى مخيم صبرا وشاتيلا. وكان علينا أن نجد طريقنا الى بعض الأسماء والعناوين. اخترقنا المخيم بصعوبة ووصلنا الى سوق يسمونه «سوق الحميدية» تملأه بسطات وعربات كثيرة تعرض البضائع السورية بأسعار بخسة. وصلنا الى العنوان الأول: بيت شهيرة أبو ردينة، امرأة وقور في وجهها الكثير من الألم والحزن على رغم مرور أكثر من تسعة عشر عاما كاملة على المجزرة التي عاشتها وشاهدتها. بعدما رحبت بنا، وقبل ان نبدأ الحديث، حضرت الى الغرفة فتاة يرافقها فيليب رينالد مراسل «لو سوار» الأسبوعية البلجيكية ومصورها التي تغطي وقائع القضية ضد آرييل شارون في بروكسيل. قال فيليب: «أجمع الحقائق ميدانيا لحساب مجلتي، استمع الى الناس وأنقل ما أسمعه». ورافق فيليب الباحثة الاجتماعية سناء حسين التي تعيش في المخيم وتعمل مع المحامي شبلي ملاط في القضية المرفوعة أمام المحاكم البلجيكية. قالت سناء: «أنا أجمع الشهادات والإفادات وأعد الشهود الذين سيمثلون امام القاضي البلجيكي». سألنا شهيرة أبو ردينة: هل حضرت المجزرة بنفسك أو سمعت عنها؟ - حضرتها وعشتها لحظة بلحظة. كان ذلك مساء يوم الخميس 15/9/1982. - شاهدنا تحركات غريبة مساء الأربعاء وعددا من الآليات والتراكتورات والتجمعات في جوار السفارة الكويتية. فقيل لنا انهم يشقون طرقا دائرية حول المنطقة. عمري الآن 42 سنة... وكان عمري يوم المجزرة 23 سنة. كنت في هذا البيت الذي نجلس فيه. لقد دمر البيت... وأعدنا بناءه في المكان نفسه. رأيت قصفا شديدا وقنابل مضيئة، وأصوات رصاص رشاشات تقترب منا شيئا فشيئا. كنا قد اعتدنا مثل ذلك ولم يلفت انتباهنا شيء جديد. كانت الدبابات الاسرائيلية محيطة بكل بيروت ومنها مخيم شاتيلا. ازداد القصف بشكل أشد. خرجت أختي من المنزل الى الشارع (وكان عمرها 17 سنة حينذاك) لمعرفة ماذا يجري. لم تكد تصل الى الشارع حتى سمعنا رشقا ناريا. سقطت أختي وصرخت تستنجد بأبيها. بعد لحظات خرج والدي فأطلقوا عليه النار وسقط الى جانب أختي عايدة وكان عمره آنذاك 63 سنة. في تلك اللحظة لم يجرؤ أحد من الموجودين على الخروج لمعرفة ما يجري. بقينا حتى الصباح ونحن على أعصابنا. كنا نسمع حركتهم وخطواتهم حولنا، ولكنهم لم يدخلوا الى المنزل حتى الصباح. من كان موجودا معك في المنزل؟ كنت أنا وزوجي وأولادي، أخي وزوجته وأولاده، ابن عمي وزوجته وأولاده، وجارة لنا. كان لي ولد عمره 15 يوما وضعت قطنا في فمه كيلا يصرخ ويسمعه المحيطون بالبيت. عند الصباح دخلوا الى الغرفة حيث كنا حوالى 15 شخصا. طلبوا منا الوقوف فوقفنا. هل عرفت من هم هؤلاء الأشخاص؟ - كانوا من القوات اللبنانية. كيف عرفت أنهم قوات لبنانية؟ - سمعناهم ليلا ينادون بعضهم بأسماء لبنانية. أما عند الصباح فتأكدنا أنه يوجد معهم عناصر يهودية. كيف عرفت ذلك؟ - كانوا يحاولون إطلاق الرصاص علينا صباحا في الشارع أمام المنزل. فصرخ أحد العناصر باللغة الانكليزية مخاطبا من حاول إطلاق الرصاص علينا. وكان شكله واضحا، ولباسه العسكري مختلفا، إنه عنصر يهودي بكل تأكيد... وأنا شاهدته بنفسي. ماذا حصل بعد ذلك؟ فرزوا الرجال من بيننا. أوقفوهم الى الجدار وأطلقوا عليهم النار قتلوا زوجي واسمه محمود أبو ديب، وقتلوا أخي كايد أبو ردينة، وابن عمي شوكت أبو ردينة وهو والد محمد ونوال، كما قتلوا في اللحظة نفسها سبعة من الشبان الذين صودف مرورهم من هنا. ومنهم ابن خريبي. إضافة الى أختي عايدة وأبي اللذين قتلا في الليلة السابقة. وماذا جرى للباقين؟ - لم يبق سوى النساء والأطفال. قادونا الى منطقة المدينة الرياضية حيث كانوا يجمعون النساء هناك لقتلنا جماعيا. وهناك حصلت مفاجأة. ماذا حصل؟ - كانوا يسوقون مجموعة أخرى من مكان آخر الى منطقة المدينة الرياضية، وما ان اقتربوا بالأسرى الى محيط المدينة الرياضية تفجرت بعض الألغام المزروعة هناك.. فقتل من قتل.. وهرب عناصر القوات اللبنانية الى الخلف. فانتهزنا نحن الفرصة وهربنا باتجاه كلية الهندسة في منطقة جامعة بيروت العربية. وكتبت لنا النجاة... ومات من مات. سقطت دموع السيدة شهيرة وهي تخبرنا بما حصل. وكأنه حصل في الأمس القريب، وفجأة قالت: «هل أخبركم بشيء جديد؟». تفضلي. «زوجة شقيق زوجي مسيحية انتقلت مع أولادها الى منطقة الدورة إتقاء للقصف والقتل. تقول انه طيلة يوم الخميس 15/9/1982 بعد اغتيال بشير الجميل... كانت السيارات تتجول في شوارع المنطقة والميكروفونات تخاطب الناس وتدعو كل من له ثأر أن يلتحق بالقوات اللبنانية للدخول الى المخيمات والاشتراك في المجزرة التي ستبدأ مساء تلك الليلة. وهل نستطيع لقاء هذه السيدة؟ - لا، غادرت لبنان الى الخارج منذ زمن طويل. انتقلنا من بيت شهيرة أبو ردينة في منطقة شارع الحميدية في مخيم شاتيلا الى منزل ابني أخيها شوكت وهما محمد أبو ردينة وشقيقته نوال. وكان دليلنا ابن أخ شهيرة واسمه أحمد. قرع أحمد باب المنزل، وسمع صوتا نسائيا من الداخل. كان صوت نوال التي فتحت الباب وسألته: - هل معك أحد؟ أجابها: معي صحافية ومصور. - لا نستقبل صحافيين، يكفينا ما نحن فيه. تكلمت مع نوال بهدوء وتوسط ابن عمها أحمد حتى دخلنا، غرفة ضيقة لا تتجاوز مساحتها العشرة أمتار مربعة تحتوي سريرين أكل الدهر عليهما وشرب. المنزل من الداخل أشد تعاسة مما يبدو من الخارج. ترفض نوال أن تكلم الصحافة أو التسجيل أو حتى مجرد الصور... إلا أنها سمحت لنا بتصوير البيت من الداخل صورة واحدة بعد جهد جهيد. غرفة أخرى أو بالأحرى حوش مسقوف ومشروع غرفة شبه فارغة تماما ما عدى مغسلة في الزاوية. وما تبقى فارغ من الأثاث. جلسنا على الأرض الاسمنتية المكسرة. قالت نوال: «هذه حالنا.. الكل يتاجر بنا ولا نقبض قرشا واحدا من أي كان. نحن جائعون. نريد خبزا لا صورا ملونة. على كل حال نحن سلمنا الأمر للمحامي ملاط، وهو تعهد بسفرنا الى بلجيكا. تذاكر سفر وفيزا، وإقامة مريحة في الاوتيل. سألتها: إذا كانت تتعاون في هذه الحالة مع الآنسة سناء حسين أجابت بالإيجاب. قلت لها: لقد قابلناها قبل قليل في بيت عمتك شهيرة. اطمأنت نوال قليلا وشعرنا أنها كادت تتكلم. لولا أن دخل أخوها محمد في تلك اللحظة - وكان شبه مستنفر - لكنه سلم علينا، واختصر الموضوع بكلمتين: لا تصريح... لا كلام مع الصحافة، لقد وكلنا المحامي ملاط وسيسفرنا الى بلجيكا للإدلاء بإفاداتنا. سيقدم لنا المحامي تذاكر سفر وفيزا ومصاريف واقامة وكل شيء. ماذا ستقدمون لنا أنتم؟ كان واضحا لنا أن نوال وأخاها محمد قررا القبض سلفا. ولا نلومهما فحالتهما الاجتماعية تستدعي الشفقة. أنهينا لقاءنا مع محمد وشقيقته نوال مكتفين بما سمعنا. وما شاهدناه بأم العين وبالصورة اليتيمة التي سمحت لنا نوال بالتقاطها. في اليوم التالي كان لنا موعد مع باقي أفراد العائلة التي أبيدت في معظمها ولم يبق منها سوى من أصيب وكتبت له الحياة بأعجوبة ليروي ما جرى من ذكريات: عائلة آل سرور، أسرة سعادة سرور الموجودة حاليا في بلجيكا، وهي إحدى الثمانية والعشرين مدعيا ضد شارون ومن يظهره التحقيق لاحقا بوكالة الدكتور شبلي الملاط. انتقلنا هذه المرة الى منطقة «حرج بيروت». قادنا مرشدنا أحمد أبو ردينة عبر منعطفات وأزقة. وأخيرا وقفنا أمام باب حوش خارجي يرتفع حوالى المتر ونصف المتر. قرع دليلنا أحمد الباب وسمعنا الجواب. كان استقبالنا هذه المرة جيدا. قادنا محمد سرور شقيق سعاد الصغير الى غرفة داخلية لا شبابيك لها ولا كهرباء. وبعد قليل دخل الغرفة شاب آخر عرف عن نفسه بأنه ماهر شقيق سعاد. سألناه: هل هذا هو المنزل حيث وقعت المجزرة. أجاب: لم نغير فيه شيئا، ما عدى بعض الترميم. تنهد ماهر طويلا وهو يستعيد الذكريات الفاجعة وقال: «ذهبنا الى منطقة الأوزاعي صباح يوم الخميس 15 أيلول (سبتمبر) لشراء خبز. وهناك لاحظت وجود تجمعات مريبة وغير طبيعية. وعدت الى شاتيلا وفي الطريق كانت هناك اشتباكات متناثرة فطلب منا اليهود المحيطون بالمخيمات أن نذهب الى بيوتنا وألا نغادرها ضمانا لسلامتنا. اعتقدنا أنهم يريدون إجراء إحصاء وإصدار بطاقات تعريف، واعتقال بعض الأشخاص المطلوبين. شعرنا ونحن في المنزل بحركات مريبة في الخارج. صعد أخي محمد الى السطح يستطلع ما يجري وعاد يقول ان من في الخارج لا يبدو أنهم اسرائيليون. ربما كانوا من الجيش اللبناني أو كتائبيين. فقال له الوالد: خذ هذه الخمسين ليرة اشتري بها مرطبات وقدم للشباب في الخارج ضيافة لهم فنأمن شرهم على أنفسنا. نحن في الواقع بقينا في البيت ولم نكن نعلم أن مجزرة ستحصل بين ساعة وأخرى. وكان موقع المنزل يعتبر أكثر أمانا بالنسبة الى القصف المدفعي من خارج المخيم. بدأ الليل يقترب شيئا فشيئا. لاحظ الوالد أن أولاد الجيران لم يكونوا في المنزل المجاور فطلب مني الذهاب الى الملجأ القريب وإحضارهم الى هنا بدلا من بقائهم وحيدين هناك بين الرجال الغرباء. واحدة اسمها ميسر والثانية اسمها فاطمة وأخوهما حسين، وهم من أقربائنا. ذهبت ومعي أختي سعاد الى هناك، وجدنا الجميع نائمين في الشارع ولم نسمع صوتا من أحدهم وهم في الظلمة. وتبين لاحقا أنهم أصبحوا أمواتا جميعهم من دون استثناء. لقد قتلوهم جميعا. كم كان عمرك حينذاك يا ماهر؟ - خمسة عشر عاما. كنت واعيا لكل ما يحدث؟ - طبعا. دخلت الى الملجأ، كان فارغا تماما ما عدا ضوء كاز منور في الداخل. لقد أخرجوهم الى الشارع وقتلوهم أمام باب الملجأ. هربت أنا وأختي سعاد من هناك، محاولين العودة الى بيتنا. سمعت صوتا ينادي من بين الأكوام البشرية. تقدمت منه، كان لا يزال حيا. جارنا أبو رضا. تبين لنا أنه أصيب بطلقات نارية عدة. وكانت أختي سعاد سبقتني في العودة الى المنزل. أما أنا فهربت من طريق آخر لأنهم وصلوا الى الشارع الذي جئنا منه. في طريق عودتي وجدت جارنا سعيد العايدي مصابا ومقتولا. وصلت المنزل عبر الطريق الجانبي وأخبرت والدي بما رأيت. فقال لي: ربما تكون سقطت عليهم قذيفة فقتلتهم. أجبته: ولكن أبو رضا قال لي انهم أطلقوا عليهم النار أمام الملجأ. سألني الوالد عن مكان أبو رضا، فأخبرته أنه ملقى بين أكوام الأشخاص حوله وفوقه. سمعنا أصواتا في الشارع تقترب من بيتنا. فذهبت أنا الى الحمام واختبأت فيه. ثم سمعنا أصوات إطلاق نار خارج المنزل. بعد قليل هدأ الوضع وخرجت من الحمام وبقينا مختبئين في البيت حتى صباح الجمعة وكان معنا في الليل جارة لنا اسمها ليلى. صعدت للاطمئنان على منزلها المجاور فشاهدوها من الشارع ودخلوا الى البيت ووجدوه مليئا بالناس. تسللت أنا الى الحمام من جديد و«قطعت نفسي». وسمعناهم يصرخون ويتكلمون بشكل جنوني وعصبية شديدة. لهجتهم لبنانية سليمة، وتبين لنا أنهم كتائب وقوات لبنانية. وكيف عرفتم ذلك؟ - من ملابسهم و«اللوغو» المعلق على أكمامهم. حاولوا أن يأخذوا أختي سعاد فحاول أبي منعهم وتعارك معهم. فتشوا المنزل بدقة بحثا عن أموال أو ذهب. أعطاهم أبي كل ما لديه علهم يكتفون ويرحلون. بعد ذلك بدأ إطلاق النار بغزارة على جميع الموجودين وكنت قد أخذت معي أخي «اسماعيل» الى الحمام وخبأته خلفي على أساس أنه حين يصلون إلينا يطلقون النار علي أنا أولا فأموت مع أخي من دون أن يشاهد هو ما يجري. رأيتهم يطلقون النار على أبي من الوراء. استدار نحوهم فأطلقوا النار عليه في صدره فسقط الى الأرض. رأيت جميع الحاضرين في البيت يتساقطون كالعصافير الواحد تلو الآخر. وسط بركة من الدماء. جارتنا ليلى كانت حاملا. كذلك شقيقة محمد أبو ردينة، بنت شوكت أبو ردينة التي بقروا بطنها. توقفت كل حواسي عن العمل. اعتقدت أن دوري آت بين لحظة وأخرى. أختي شادية وعمرها سنة ونصف كانت لا تزال حية. كانت تقترب من الحمام بخطوات بطيئة... أطلقوا النار عليها فطار دماغها الى جدار الحمام الخارجي. كم شخصا فقدتم في تلك المجزرة؟ خمسة شقيقات وأشقاء ووالدي ووالدتي. كلهم أصيبوا، واعتقدت أنهم جميعا انتهوا ولم أحرك ساكنا. التزمت الصمت التام مع أخي اسماعيل أكثر من نصف ساعة. كنت أعلم أن الجناة لا يزالون في المنزل أو أمامه ينتظرون أي حركة. قذفوا قنبلة الى كومة حطب كانت في زاوية الحوش، ربما اعتقادا منهم أن آخرين اختبأوا فيها ثم ذهبوا. خرجت أنا وأخي اسماعيل. تفقدت الجثث. أختي نهاد حركت اصبعها وكانت لا تزال حية. والدتي كانت مصابة بالرصاص ولم تكن تأتي بحركة. كانت حية واستجابت لي عندما علمت من أنا. أما سعاد فأصيبت مرات عدة، وكانت بين الموت والحياة ولكنها عاشت. لم تكن سعاد قادرة على الحركة. كانت مشلولة منذ لحظة إصابتها بالرصاص. أما الوالدة فاستطاعت الوقوف والباقون استشهدوا. هل الوالدة لا تزال موجودة؟ - نعم.. سترونها بعد قليل. رأينا والدة ماهر وسعاد... سيدة جليلة صامتة... أصابتها المجزرة بصدمة لا تزال تعاني منها كابوسا دائما. التقطنا لها صورة مع ابنها ماهر ولم تمانع. مكان التقاط الصورة هو المكان حيث وقعت المجزرة. اكتفينا بما سمعناه... وقبل أن نغادر المنزل سألنا ماهر: هل أنت متأكد أن الغزاة كانوا قوات لبنانية؟ - كل التأكيد. هناك أقلية منهم مكتوب على أكمامها جيش لبنان الجنوبي. ربما كانوا يهودا يرتدون هكذا ملابس للتمويه. الله أعلم. هل شاهدت أنت شارون في محيط المخيمات؟ - أنا لم أشاهده. ولو شاهدته لما عرفته. كثيرون شاهدوه بكل تأكيد قرب السفارة الكويتية أمام مبنى أصيب أثناء الحرب. أتريد أن تقول شيئا آخر يا ماهر؟ - لدي ما أقول لساعات وساعات. قتلوا جارنا موسى العايدي بالبلطة وهو يحمل طفلته. وقتلوا كثيرين تحت جنازير التراكتورات. أكوام من الجثث في وسط الشارع. تعرفت بين الأكوام الى أحد الجيران الذي كان لا يزال يتحرك اسمه مفيد ابن أم وليد. طلب مني إسعافه، فقلت له ابق مكانك... سيأتي دورنا للقتل فنغطيك بأجسادنا وتسلم أنت. وحضر أحد الأشخاص الى المكان. كانوا ينادونه باسم عبدالله. أمر عبدالله (ولهجته أرمنية) بأن نساق الى منطقة المدينة الرياضية عبر منطقة سفارة الكويت. وعند السفارة قالوا ان شارون كان هناك ومعه شخصان من القوات الدولية. ألم تشاهده أنت؟ - أبعدنا الاسرائيليون عن المكان بالقوة. ربما لمنعنا من مشاهدة من كان هناك. القصص كثيرة.. والمآسي أكثر. جاء من يخبرنا أن مظاهرة تتقدم للتجمع في المنطقة تأييدا للانتفاضة ويكتمل التجمع عند الساعة السادسة مساء. وكانت الساعة تقترب من السادسة فقررنا الانسحاب من المنطقة قبل أن يصبح خروجنا من هناك مستحيلا قبل مرور ساعات عدة. انتقلنا والدليلة فاطمة الى منطقة الجناح (جنوب غربي بيروت) شرق فندق سمرلاند وصولا الى منطقة السلطان ابراهيم جنوبا. شوارع داخلية ضيقة وتعيسة. بيوتها أشد تعاسة ولا تختلف كثيرا عن البيوت التي شاهدناها في زياراتنا السابقة الى مخيمات صبرا وشاتيلا والحرش. مضيفتنا هذه الليلة هي السيدة نوف ضاهر حسين المقداد. متزوجة من جبرا سليم مطرية. يبدو انها اصبحت خبيرة في شؤون الصحافة والإعلام وهي شقيقة حسن المقداد (أبو ربيع) الذي ظهر على شاشة NBN في برنامج حول المجزرة ضم الدكتور شبلي ملاط والسيد ايلي حبيقة (من منزله). ترددت نوف في البداية وقالت انها متضامنة مع أخيها أبو ربيع ولا تتكلم إلا بمعرفته وحضوره. أخبرناها أننا ذهبنا الى منزل أبو ربيع ولم يكن موجودا (منزل أبو ربيع يبعد خطوات قليلة عن منزل نوف). عرضنا عليها ان ندردش لحين حضور أبو ربيع. شجعها زوجها على ذلك فوافقت. وبدأنا نسجل. قبل يوم من المجزرة كنا في بئر العبد وسمعنا ان ابن الجميل قتل (تقصد الرئيس بشير الجميل) فحزنا عليه. إخوتي كانوا يسكنون قرب «الرحاب». ابنة أخي فريال كانت في العاشرة من عمرها. ذهبت لتملأ ماء من هناك. مرت سيارة وقال لها أحد الموجودين فيها «بكرة حاتشوفوا يا...» (صفة لا تكتب)، وفي اليوم التالي (الخميس ليلة الجمعة) حاولت الدخول الى صبرا فرأيت أكوام القتلى... أحدهم كان أصلع قليلا ويشبه أخي، تقدمت ونظرت اليه. لم يكن هو أخي، ولم أجد بين أكوام القتلى أحدا من أهلي. هل أهلك كانوا في صبرا أو في شاتيلا؟ - كانوا في صبرا... قرب الرحاب. (يبدو ان الرحاب منطقة معروفة في صبرا). من هم؟ ما هي أسماؤهم؟ - أخي حسين وأولاده علي وياسر وصفاء وسناء وزوجته وفاء وكانت حاملا في شهرها الخامس. أخي ياسر وأولاده فايزة وفريال ووفاء وفادي وحسين وعدنان وزوجته زينب وكانت حاملا في شهرها الثامن. أختي الهام وبناتها: ميرفت وناريمان وفاطمة وألفت ومحاسن ونسرين. وهي نفسها كانت في لحظة ولادة وقتلوا جميعا. أختي الهام وجدنا قدمها على مستوى عنقها ووجهها مسلوخا وكذلك زوجها علي المقداد. قتلوهم بالفأس». وأشارت نوف الى صورة أخيها ياسر وقالت: هذا هو أخي ياسر. كان أبيض وأشقر. لكن وجهه أصبح أسود داكنا بعد قتله. أما باقي جسمه فظل أبيض. كيف قتلوه؟ فسروها أنتم. وماذا رأيت أيضا؟ - أخي حسين... آثار رصاص في رأسه وصدره. أما زوجته فكانت يداها مربوطتين فوق رأسها وصدرها مكشوف، (ثيابها ممزقة وبلا ملابس داخلية). وكذلك زوجة أخي حسين، إضافة الى ابنة أخي ياسر فايزة (18 سنة) التي كانت مخطوبة كانت ثيابها ممزقة عن صدرها وعورتها ظاهرة. (مفاد قولها انهما اغتصبتا). أما أختي الهام التي كانت في لحظة ولادة فشقوا بطنها ورموا بولدها قربها. وفادي ابن أخي (10 سنوات) رأيت رجليه مقطوعتين بالفأس ولسانه مسحوبا خارج فمه. وأختي بقروا بطنها وكانت رجلها معلقة برقبتها. رأيت فأسين غارقتين في الدم. أما ياسر ابن أخي حسين فكان مرشوشا بالرصاص. الأولاد مقطعون بالفؤوس وبعضهم محروق - ليس حرق نار - لا أدري يمكن أسيد أو ماء نار... الله أعلم!! أخوك أبو ربيع قال على التلفزيون ان حبيقة وجماعته نفذوا العملية. أنت ماذا رأيت؟! - القوات اللبنانية دخلت صبرا وجيش اسرائيل كان حول المخيمات... أما حبيقة فلا أعرف. وقال حسن المقداد (أبو ربيع): الذي ظهر سابقا على شاشة التلفزيون أكد لنا أبو ربيع ان كل ما قاله في التلفزيون صحيح. ما عدا رقم الضحايا. قال ان الرقم الصحيح هو 3363 وانه حصل على هذا الرقم من الاسعاف المقاصدي وسواه. واعتذر عن الرقم الذي ذكره في التلفزيون وهو أربعة آلاف. وأكد كذلك ان اسماء جماعة حبيقة التي ذكرها للتلفزيون صحيحة كونه كان يعيش بينهم في المنطقة ويعمل سائق «أوتوكار» في مدرسة في حارة حريك. ما استطعنا تسجيله في آخر الجلسة هو ما يتعلق باتهامه ايلي حبيقة انه كان موجودا ومشرفا على المجزرة. سألناه: قلت ان الشباب أتوا وأخذوك من هنا في السيارة وأنكم وصلتم الى حاجز أقامه جماعة سعد حداد. فماذا جرى؟ - كانت المجزرة ابتدأت وكان شارون يقف على بيوت الضباط مقابل السفارة الكويتية في القاطع الثاني. (أطلعنا حينذاك على ألبوم صور وتوقف عند صورة تظهر دبابة اسرائيلية ومبنى خلفها) وقال هذه الصورة توحي لكم... هنا كان يقف شارون ومعه حبيقة. نعم ايلي حبيقة بالذات كان يقف مع شارون، جاء برفقته من المطار، في اليوم التالي - أي السبت - جاء شابان (جوزيف طاس وريمون خميس) وكان مركزهما على الأوزاعي. طلبت منهم ان يقلاني لأرى أهلي في صبرا. وهما من جماعة حبيقة أقلاني الى منزل أهلي في سيارة فولكس فاغن وانصرفا. هناك رأيت قتلى بالعشرات... أمام منزل أهلي وجدت 27 جثة ولم أتعرف الى أحد لأن الوجوه كانت مشوهة... رصاص في الرأس وبلطات في الرأس في غالبها. شيء يفقد العقل... أرسلت في طلب بوكلين (رافعة آلية) من رياض أمهز وتعاونت مع أخي علي وأختي نوف في التفتيش... ودخل كثيرون وطوق الجيش اللبناني المخيمات. وبقينا حتى صباح الأحد ونحن نفتش الجثث. غادرنا المنزل. وعند الباب الخارجي قال لنا أبو ربيع: ذهبت منذ يومين الى النيابة العامة اللبنانية لإعطاء افادة بناء على طلبهم بعد ظهوري على شاشة NBN وادعيت في افادتي على شارون وايلي حبيقة. هناك قضية أمام القضاء اللبناني وأنا أتابعها في كل جدية.