كل سنة، يستمر حلول ذكرى مجزرة "صبرا وشاتيلا" ثلاثة أيام، تنتهي في السابع عشر من أيلول (سبتمبر). وهذه السنة، تحضر الذكرى ال29 لتضع أوزارها على الذاكرة، مستعيدة القتلى وقتَلَتَهم ومذكّرة بأن صراخ الضحايا لا يزال عالقاً في المكان، حتى أنه تجلى في طوابع بريدية، ولكن بلا طائل. وبعد مرور 29 عاماً، تغيرت أشياء وأمور ومواقف كثيرة ومنها ما انقلب، وقد يكون بعض منفّذيها تابوا وبعضهم الآخر جمّد حقده في انتظار فرصة أخرى، بينما شارون والعدالة قابعان في غيبوبة. وفي ما يلي استعادة لبعض ما جرى، مُلَمْلمة من مراجع مختلفة: في 11 أيلول 1982, غادرت القوات الدولية التي كانت منوطة بها حماية المخيمات الفلسطينية بعد خروج منظمة التحرير، في 1 أيلول. وذلك بموجب وعد قطعته الولاياتالمتحدة آنذاك من خلال مبعوثها فريد حبيب، بعدم السماح للقوات الإسرائيلية بالدخول إلى بيروتالغربية وضمان سلامة الفلسطينيين في المخيمات. إلا أن اغتيال بشير الجميل، القائد العسكري لحزب الكتائب في 14 أيلول، والحليف الأساسي لإسرائيل في ذلك الوقت، الذي انتخب في 23 آب رئيساً للجمهورية أحدث تغييراً في المعادلة القائمة، ودفع إلى إعادة خلط الأوراق من جديد. وفي غضون ساعات، قرر وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أريل شارون دخول بيروتالغربية، وفي صباح 15 أيلول حاصرت القوات الإسرائيلية مخيم صبرا وشاتيلا، تمهيداً لدخول قوات الكتائب وفرق من جيش لبنان الجنوبي بقيادة سعد حداد إلى المخيم. آلاف القتلى... في 48 ساعة في 16 أيلول، وفي تمام الساعة 3:00 عقد اجتماع بين كل من أرييل شارون ورئيس الأركان رفايل ايتان وقيادة من حزب الكتائب، انتهى بدعوة وحدات من الكتائب للدخول إلى المخيم للقبض على الفدائيين الفلسطينيين، بذريعة أنهم هم من وراء عمليات اغتيال الجميل. ورغم معطيات توفرت انذاك تفيد بعدم وجود مسلحين في المخيم، بدأت مجموعات الكتائب (بلغ عددها 1500 مقاتل) بالتحضير لدخول المخيم في مطار بيروت الدولي الخاضع لسيطرة إسرائيل في ذلك الوقت وتم نقلهم في جيبات إسرائيلية إلى مداخل المخيم. دخلت الوحدة الأولى (150 مقاتل) المخيم حوالي الساعة السادسة مساءً. وعند حلول الظلام، بدأت القوات الإسرائيلية بإطلاق قنابل مضيئة فوق المخيم لتسهيل العملية. في هذه الأثناء كان كل من شارون وحبيقة حاضرين في مبنى تابع للسفارة الكويتية انذاك مؤلف من سبع طبقات ويؤمّن رؤية واضحة وكاملة للمخيم. أثناء الهجوم ووفقاً لأحد مرافقي حبيقة في ذلك الوقت، روبير حاتم، الملقب بكوبرا، مؤلف كتاب "من إسرائيل إلى دمشق"، جاء فيه "تلقى رسالة على جهاز اللاسلكي من رجل يدعى بول يقول فيها: «يوجد نساء وأطفال ماذا سوف نفعل»، أجاب حبيقة «هاي مشكلتك...». لم تغادر قوات الكتائب وقوات سعد حداد المخيم حتى الساعة الخامسة صباح 17 أيلول. وبقيت مجموعات داخل المخيم للتخلص من الجثث ونقلها إلى أماكن مختلفة لدفنها، مثل المدينة الرياضي المحاذية للمخيم ونقل عدد كبير منها إلى منطقة الأوزاعي الساحلية ودفنها في مقابر جماعية هناك بعد أن زوّد الجيش الإسرائيلي المقاتلين بجرافات بغية تهديم المنازل، إلا أنها استعملت لنقل الجثث والحَفر لدفنها. ورغم استمرار الحصار تمكن بعض الناشطين والصحافيين من الدخول إلى المخيم في 18 أيلول في الساعة 08:00 صباحاً، بعد مغادرة جميع المقاتلين، و بدأت المحطات الإخبارية تناقل أخبار وقوع مجزرة في مخيم صبرا وشاتيلا. كان روبيرت فيسك مراسل صحيفة الإندبندنت البريطانية من أول الداخلين إلى المخيم الذي ذكر لاحقاً في كتابه "ويلات وطن": "بعد أن أحصينا مئة جثة، توقفنا عن العدّ. وكانت جثث الشبان والنساء والأطفال والمسنين ممددة في الزواريب حيث طعنوا بالسكاكين أو قتلوا بالرصاص. وكان كل دهليز في الركام يكشف عن مزيد من الجثث. واختفى مرضى أحد المستشفيات الفلسطينية بعد أن أمر المسلحون الأطباء بالخروج. ووجدنا في كل مكان معالم قبور جماعية حفرت على عجل. وقد بلغ عدد ضحايا المجزرة ألفاً أو حتى ألفاً وخمسمئة." وفي معرض كتابه يشير فيسك إلى أنه في مقابلة مع أحد المقاتلين الذين شاركوا في المجزرة: قال له: "من حين إلى آخر كنت أسمع شائعات عن وجود ألف جثة مدفونة حيث تمارس رياضتك". واعتقدت في أول الأمر انه لا بد وأن تكون هناك مقبرة جماعية تحت المدينة الرياضية المهدّمة قرب شاتيلا. ولم أعرف الا بعد ذلك ان الجثث دفنت تحت ملعب الغولف بين شاتيلا والمطار. وعندما ذهبت إلى هناك وجدت مساحات كبيرة محفورة حديثاً وعليها آثار الجرافات. ورفض الجيش اللبناني الذي كان يسيطر وقتذاك على المنطقة ان يسمح للصليب الأحمر بأن يقوم بتحرياته. وحتى يومنا هذا لم يجر الكشف على تلك المقابر." أحد الناجين من المجزرة فتاة عمرها 13 عاماً روت لمراسلة (أ ب) آنذاك ما رأته في ذلك اليوم: "ابن عمي وعمره تسعة أشهر كان يبكي فأطلقوا النار عليه. وعلق أحدهم: "لم أعد أطيق صوته"، وأطلق النار على كتفه. بدأت بالبكاء، وقلت له: انه الوحيد الباقي من عائلتي. أخذه وقطعه من فوق رجليه إلى نصفين. أتى عمي فيصل ولم يكن يدري ما الذي يجري. أرادوا إطلاق النار عليه، فرجوتهم أن لا يفعلوا، «قتلتم كل أفراد عائلتي ألا تتركوا لي واحدا». حتى الأن لا يوجد رقم دقيق لعدد القتلى في مجزرة صبرا وشاتيلا، لجنة كوهن الإسرائيلية التي شكلتها إسرائيل للتحقيق في المجزرة قالت أن عدد الضحايا بلغ 800, إلا أن تقارير أخرى من الصليب الأحمر والأمم المتحدة و الهلال الأحمر الفلسطيني تحدث عن الاف القتلى. وفي هذا الإطار كتب الصحافي الأميركي جوناثان راندال، عن مجزرة صبرا وشاتيلا: "ستعرفون عدد الضحايا، حين يُحفر نفق للمترو في بيروت".