لم تتوقف بعد ثورة المعلومات عن إنتاج مفاجآت جديدة وباهرة، كل يوم نعثر على خدمة جديدة لها علاقة بالتقنية، ولعل أكثر الخدمات إبهاراً خلال القرون الماضية على الإطلاق ثورة «الانترنت» التي غيّرت أساليب عيشنا وطرق رؤيتنا للعالم وأدوات تواصلنا مع الآخر، وكل النعيم المعرفي الذي نتمتع به الآن جاء عبر «الانترنت»، حتى الصحف وصناعة الورق ودور نشر الكتب أصبحت تحسب لهذه الشبكة الهائلة ألف حساب، إنها شبكة الشبكات، وبحر المعلومات الذي نقدم له كل الامتنان، في السابق حينما نريد البحث عن تاريخ بسيط، أو عن توثيق اسم من الأسماء، أو عن اسم كتاب، أو عن غلافه، نحتاج إلى جهود مضنية، الآن تستطيع العثور على أي شيء في عالم الخيارات المتعددة، عالم «الانترنت» وبأسرع وقت. الجيل الذي فتح عينيه على «الانترنت» لن يدرك قيمة هذا الكشف العظيم، لكن الزملاء والأصدقاء الستينيين الذين أصبح الانترنت بالنسبة لهم الصديق الذي لا يمل وهو «كتاب العصر الجديد»، يتحدثون الآن عن الانترنت وكأنه عالم من الغرائب التي لم يكونوا يتخيلونها على الإطلاق، أصبحت لدى كل واحد منا مكتبة عظيمة حفظها في «فلاش ميموري» بحجم نصف أصبع، ولدينا صحفنا التي نتابعها على «بي دي إف»، ولدينا المجلات، لدينا «الموسوعة الحرة»، خصوصاً النسخة الانكليزية من «ويكيبديا» التي تعطيك من المعلومات ولا تمل. العجيب والصارخ، أننا نتساءل بعد كل هذا الكشف، «ماذا بعد»؟ هل نحن مقبلون على ثورة أشد شراسة وأكثر متانة من هذه الثورة المعلوماتية؟ «بيل غيتس» في كتابه «المعلوماتية بعد الانترنت» ص398 يكتب: «لعل ما نشهده الآن ليس إلا بداية البداية لهذا العصر، فهذه الثورة ورغم تجلياتها الباهرة البادية للعيان الآن يبدو وكأنها بدأت لتوها والتطورات في هذا الميدان العلمي المتقدم ستستغرق حسب توقعات المختصين عقوداً عدة قادمة». بمعنى أننا لم نزل بعد في العصر الأول من الثورة المعلوماتية، وأننا سنقبل على موجات أخرى متجددة في خدمات «الانترنت» ولن تهدأ هذه الثورة، وستجرف بجنزيرها الحاد كل المقاومات الميتة وكل الحجج المريضة التي تريد حجب شمس التحديث والتطور بغربال المنافحة اللاهثة المريضة عن ما يسمى ب»الهوية»! نحن نعيش الآن وسط تكون كتلة اجتماعية ضاغطة ولدت قبيل هذه الثورة وأثناءها، يمكن تسميتها ب»الجيل الثالث»، هذا الجيل هو أصعب الأجيال، إنه جيل من الشبان «العفاريت» الذين أصبحت التقنية هي الغذاء الذي يتغذّون عليه، بعد أن كان الناس يلعبون الألعاب في الطرقات والملاعب أصبح العالم كله عبارة عن عالم «افتراضي» فمهما كان الشاب جاهلاً في لعب «كرة القدم» واقعاً ربما يبدع في لعب كرة القدم «إليكترونياً»، تتكون الآن كتلة اجتماعية صلدة يمكنني أن أخلع عليها وصف «الجيل الثالث»، جيل غير مهموم بالأمور التي نتقاتل عليها الآن، لديه سموم أخرى يتجرعها عبر استخدامه لخيارات غير سوية أحياناً عبر «الانترنت»، جيل لا يمكن مراقبته ولا يمكن الوقوف في وجهه، إن هذا الجيل هو عبارة عن «ذرّات» بشرية تدور في فلك الأجهزة الإلكترونية ولن نتمكن من اقتلاعه من جذوره ولا من الوقوف في وجهه، يمكننا فقط دراسته. للأسف إن كل الأنظمة التعليمية، والقوانين الاجتماعية، وكل الأدبيات التقليدية لم تطوّر قوانينها الأخلاقية ولا من أفكارها الدينية أو الاجتماعية لتواكب التطور الهائل الذي يصبغ الواقع، إن «الجيل الثالث» كرة ثلج تتدحرج الآن باتجاه «صنم المجتمع» ما لم يرضخ المجتمع لمتطلبات العصر الجديد فسيكتشف بعد فوات الأوان أن جسده قد فسد، وأن أي إرادة ترميم له لن تكون ممكنة. [email protected]