هذه المرة لن يكون سهلاً تجاوز الأزمة بين إسرائيل وتركيا، وهناك من يرى أن التدهور بدأ يتخذ طابعاً استراتيجياً، علماً أن جهوداً أميركية وأوروبية كثيرة بذلت واتصالات أجريت من وراء الكواليس لتسوية الأزمة. وعلى رغم أن الأتراك ابقوا الباب مفتوحاً ولم يضعوا قيوداً على العلاقات التجارية والسياحية في محاولة للتغلب المستقبلي على الخلاف القائم، إلا أن الإسرائيليين من عسكريين وسياسيين وخبراء اعتبروا أن الأزمة الناشئة في أعقاب تقرير بالمر وقرار طرد السفير الإسرائيلي من أنقرة ووقف العلاقات العسكرية، هي الأكثر خطورة في تاريخ العلاقات بين الدولتين وهم على قناعة بأن الثمن الذي ستدفعه إسرائيل إذا ما استمر هذا التدهور في العلاقة سيكون أكبر بكثير من الثمن الذي سيدفعه الأتراك. ويبدو الغضب من هذا التوتر بارزاً في صفوف قيادة الجيش والاستخبارات الإسرائيلية، الذين ينتقدون رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو بشدة لانجراره وراء سياسة وزير خارجيته المتطرف افيغدور ليبرمان، ويقولون إن ما ينتجه هذا الانجرار لا يقتصر على دفع إسرائيل نحو أزمات دولية، بل يهدد مصالح إسرائيل الاستراتيجية. وطالب الجيش الإسرائيلي حكومته بتسوية الأزمة مع تركيا، «حتى ولو باعتذار لا تستحقه تركيا»، كما قالت مصادر مقربة من رئيس أركان الجيش في مطلع الأسبوع، في سبيل إعادة العلاقات إلى سابق عهدها. ويقول رئيس أركان الجيش السابق، دان حالوتس، إن العلاقات مع تركيا تمثل الضلع الثاني في مثلث القوى العظمى غير العربية في المنطقة إلى جانب إسرائيل وإيران. وكما بات معلوماً فإن الأزمة الإسرائيلية- التركية تعود في الظاهر إلى رفض إسرائيل طلب تركيا الاعتذار عن قتل تسعة أتراك خلال الهجوم الإسرائيلي العدواني على سفينة «مرمرة» وبقية سفن أسطول الحرية في أيار (مايو) من السنة الماضية. ولكن العلاقات بين البلدين بدأت تسوء منذ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بين 2008 و2009. وحاولت تركيا إظهار عدائها لإسرائيل على انه جزء من التضامن مع الفلسطينيين، ولكن الإسرائيليين يرسمون ابتسامة ساخرة على وجوههم عندما يسمعون هذا الكلام. فالطائرات الإسرائيلية التي قصفت غزة كانت تدربت فوق سماء تركيا وأجرت تدريبات مشتركة مع الطائرات الحربية التركية. وحتى بعد الحرب استمرت علاقات التعاون العسكري والاستراتيجي العميق بين الجيشين الإسرائيلي والتركي. وبحسب ألكس فيشمان، محرر الشؤون العسكرية في صحيفة «يديعوت أحرونوت» فإن هذه العلاقات مستمرة أيضاً في زمن القيادة الجديدة للجيش التركي. ولم يستبعد فيشمان في مقاله المنشور في 4 أيلول (سبتمبر) 2011 أن يتصل رئيس الأركان الإسرائيلي الحالي بنظيره التركي ليسأل: «ما الذي يجري؟ كيف نخرج من هذا المأزق»، وذلك لأن مصالح الجيشين مترابطة، إقليمياً واستراتيجياً. من هنا يبدو واضحاً إن الجيش الإسرائيلي ما زال يأمل بأن تتم تسوية الأزمة بين الطرفين بأية طريقة. فهذه العلاقات مبنية على تحالف استراتيجي في مواجهة إيران، ويرتبط بمصالح مشتركة في الموضوع السوري، فكل منهما يريد نظاماً مستقراً في دمشق يحفظ حدود كل منهما هادئة. فتركيا تخشى من أن يستخدم الأكراد هذه الحدود ضدها وإسرائيل تخشى من أن يستخدم الفلسطينيون هذه الحدود ضدها. وكلاهما، تركيا وإسرائيل، جزء من تحالف شمال الأطلسي ومرتبط بمهمات مشتركة، بالإضافة إلى تعاون عميق في الشؤون الاستراتيجية الأمنية تحت عنوان «مكافحة الإرهاب». ويصل هذا التعاون بحسب صحيفة «ساندي تايمز» البريطانية إلى درجة وجود قاعدة لجهاز «الموساد» (الاستخبارات الإسرائيلية الخارجية) شرق تركيا، ترصد به مصالحها في إيران والعراق وسورية، هذا عدا عن التعاون بين سلاحي البحرية من البلدين في البحر الأبيض المتوسط. وهناك صفقات أسلحة بمئات ملايين الدولارات بين الجيشين والشركات العسكرية التي تعمل لمصلحتهما في كل من البلدين. وستقوم إسرائيل، بموجب إحدى الصفقات، بتجديد الدبابات التركية في مصانع قائمة على الأراضي التركية بمشاركة قوى عاملة محلية بقيمة 640 مليون دولار وهناك صفقة أخرى لتحديث الطائرات بقيمة 400 مليون دولار. من هنا فإن من الصعب على الإسرائيليين أن يتنازلوا عن العلاقات مع تركيا وهم يعتقدون بأن تركيا أيضاً لا تستطيع التنازل. وأولئك الذين يرون أن اليونان ستكون بديلاً من تركيا في إسرائيل، هم أقلية، مثل الأقلية الموجودة في تركيا، التي تعتقد أن مصر يمكن أن تكون حليفاً استراتيجياً لتركيا بديلاً من إسرائيل. فحتى في قيادة الجيش الإسرائيلي ثمة من يقول إن اليونان يمكن أن تكون بديلاً لتدريبات سلاح الجو ولصفقات السلاح ولكنها ليست بديلاً عن تركيا من الناحية الاستراتيجية. فتركيا دولة مسلمة ولها نفوذ في العالمين العربي والإسلامي وإسرائيل تحتاج لدورها هناك وتحتاج لتأثير إيجابي منها على مصر وسورية ولبنان وعلى دول عربية أخرى، وهذا ما لا توفره اليونان. والسؤال الذي يشغل بال الإسرائيليين اليوم، هو هل يمكن أن يتم تصحيح الوضع أم أن القطار فات الطرفين؟ وبالنظر إلى سياسة أفيغدور لبرمان، وزير الخارجية المتغطرس، فإن الوقت لم يفت بعد. وهو يرى أن على إسرائيل أن تجعل تركيا راضخة. فهو يريدها أن تفشل في تهديداتها برفع شكاوى ضد ضباط الجيش الإسرائيلي المعتدين على مرمرة. ويقول إن تقرير بالمر يشكل سنداً قانونياً لإسرائيل لأنه يعتبر الحصار على غزة شرعياًَ ويعتبر الهجوم على أسطول الحرية قانونياً. ويقول إن وجود تعاون إسرائيلي يوناني سيخنق الأتراك وأن تركيا أيضاً ستخسر عسكرياً وأمنياً وتجارياً إذا قاطعت إسرائيل. فالأخيرة تستورد من تركيا ببليوني دولار في السنة وتصدر لها ببليونين. ولكن هناك من يخشى أن تأتي النتيجة عكسية. فيقول ألون لئيل، وهو خبير في الشؤون التركية وسفير سابق لاسرائيل في أنقرة: «تركيا لم تتخذ مواقفها مصادفة، فهي تشعر بحرج من علاقاتها مع إسرائيل، نتيجة لسياسة الحكومات الإسرائيلية. وقد حاولت أن تؤثر إيجاباً على السياسة الإسرائيلية لمصلحة التعاون المشترك بينهما، ففشلت. واختارت هذا الجفاء والنفور، ولكن من دون رغبة. فهي لا تفتش عن سبب للعداء مع إسرائيل، بل تفتش عن آفاق لتعزيز مكانتها في المنطقة والعالم لتعيد لنفسها الدور القيادي في العالمين العربي والإسلامي. ونحن، بدلاً من أن نكون شركاء لها في هذا الدور، اخترنا أن نخرب اللعبة. وسيكلفنا هذا غالياً». ورفض لئيل القول بأن تركيا كانت ستفتعل أي سبب للخصومة مع إسرائيل، كما يزعم ليبرمان، لأنها اختارت مساندة الشعب الفلسطيني. وقال: «واضح أن تركيا مثل كل دول العالم الإسلامي، بل مثل دول أوروبا أيضاً، تساند الشعب الفلسطيني. ولكن ليس على حساب إسرائيل. فلو أن الدولة العبرية قبلت الطلب التركي الاعتذار عن قتل تسعة أتراك، ما كانت هناك مشكلة لإعادة العلاقات بين بلدينا». وأضاف: «المسألة فقط مسألة كرامات. كل طرف، تصرف بحسب أصول شعوب العالم الثالث، فوضع مسألة الكرامة فوق اعتبارات المصالح الوطنية الاستراتيجية. وهذه وصفة رائعة للفشل». - التوتر التركي- الإسرائيلي: منعطف نوعي وتنافس على الموقع والمكانة (مأمون الحسيني)