إذا كانت إسرائيل لم تفقد الأمل، عند نشر تقرير بالمر الشهر الماضي، في تحسين علاقتها مع تركيا باعتبار أن الأبواب في مجالي السياحة والتجارة بقيت مفتوحة بين البلدين، فإن التقارب بين مصر وتركيا في أعقاب أزمة السفارة الإسرائيلية في القاهرة، من جهة، وزيارة رئيس الحكومة التركية، طيب رجب أردوغان، من جهة أخرى، جعلاها تفقد هذا الأمل، على الأقل في هذه الفترة. رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو الذي تبنى موقف وزير خارجيته، أفيغدور ليبرمان، الرافض للطلب التركي الاعتذار لمقتل الأتراك التسعة على متن سفينة مرمرة، ما زال يتعرض للهجوم والانتقاد وتوجه نحوه السهام من اكثر من مسؤول ومؤسسة في إسرائيل، وفي مقدمها قيادة الجيش التي تقود الجبهة الرافضة للموقف المتعنت تجاه تركيا والداعية إلى اتخاذ إجراءات تضع حداً للأزمة وتمنع تركيا من تنفيذ تهديداتها، أو ما اطلق عليها الإسرائيليون «العقوبات التركية على إسرائيل». وفي هذا الجانب يبقى الأخطر بالنسبة لإسرائيل قرار إلغاء الاتفاقات الأمنية وصفقات الأسلحة بين البلدين. وليس مصادفة أن يدعو نتانياهو «منتدى الثمانية» لوزراء حكومته إلى اجتماع طارئ في الوقت الذي كان أردوغان يلقي خطابه في مصر. فعلى رغم أن الملف الفلسطيني ملتهب في هذه الأيام، إلا أن نتانياهو رفع الملف التركي إلى رأس أولوياته وطلب من رؤساء الأجهزة الأمنية حضور الاجتماع وإعداد تقارير حول السيناريوات المتوقعة في حال تدهور اكبر للعلاقة مع تركيا في ظل توثيق علاقة أنقرة - القاهرة. وفي محاولة لكسب رضا الجيش حرص نتانياهو على طمأنة قيادته في دعوته وزير القضاء إلى المشاركة في الاجتماع للتشاور في كيفية إعداد خطة دفاع عن جنود الوحدة البحرية التي شاركت في التصدي للسفينة مرمرة «ومنع ملاحقتهم قضائياً في مختلف دول العالم، كما سبق وجرى للعديد من السياسيين والعسكريين الإسرائيليين المتهمين بارتكاب جرائم حرب. وأدلى الجيش برأي واضح يعرب فيه عن القلق من توثيق العلاقة بين مصر وتركيا ويعتبره «خطراً يهدد امن إسرائيل» وتوقع أن تساهم هذه العلاقة في تعنت الموقف التركي تجاه العلاقات العسكرية والديبلوماسية مع إسرائيل واعتبر تدهور العلاقة التركية - الإسرائيلية والمصرية - الإسرائيلية تطورين يضعان الدولة العبرية أمام مخاطر جديدة. أما القيادة العسكرية الإسرائيلية، السابقة والحالية، فتتفق على ضرورة الخروج من أزمة العلاقة مع تركيا بأسرع وقت وبأقل ما يمكن من أضرار، حتى وإن احتاج الأمر تقديم الاعتذار بهدف الحفاظ على المصالح الإسرائيلية بما فيها المناورات التي يجريها الجيش الإسرائيلي في تركيا والصفقات العسكرية «السمينة»، التي تصل قيمتها إلى مئات ملايين الدولارات بين الجيشين والشركات العسكرية التي تعمل لمصلحتهما في كل من البلدين. اضافة إلى ما تحدثت عنه إسرائيل من أن تركيا تحولت في السنوات الأخيرة إلى «عيون للاستخبارات والموساد»، وما كشفته «ساندي تايمز» البريطانية من أن تركيا سمحت بإقامة قاعدة لجهاز المخابرات الإسرائيلية الخارجية في شرقي تركيا بهدف رصد مصالحها في إيران والعراق وسورية. الجيش الذي قد يقهر مع استمرار التهديدات التركية لإسرائيل يتفاقم القلق من الأبعاد الأمنية والاستراتيجية لهذه التهديدات. وفي إسرائيل وصفوا قرار تركيا بزيادة تواجد سفنها الحربية في البحر المتوسط ومرافقة السفن المتوجهة إلى غزة ب «استعراض العضلات» خصوصاً عندما قال الأتراك انهم سيجعلون سفنهم تقترب إلى بعد 100 متر من السفن الحربية الإسرائيلية. ولم يكتف الإسرائيليون بمناقشة هذا الملف داخلياً بل تجاوزوا الحدود نحو تركيا نفسها وراحوا يستمعون لآراء مسؤولين أتراك. مصادر إسرائيلية نقلت عن مسؤول تركي قوله انه «لن يكون مكان لسلاح الجو الإسرائيلي للتدريب أو تهديد السفن المدنية لأن تركيا ستتخذ خطوات من أجل تأمين الملاحة البحرية ووضع حد للعربدة الإسرائيلية في البحر المتوسط». ولم يكتف المسؤول التركي بهذا القول وأضاف:»إسرائيل لن تستطيع العربدة وسلاح البحرية التركي متواجد في المنطقة لتأمين حقول النفط والغاز قبالة السواحل القبرصية من الآن فصاعداً، كما سترافق القطع البحرية التركية قوافل المساعدات الإنسانية لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة». هذا التحدي التركي بحد ذاته يقلق الإسرائيليين، ومع نشر المزيد من التقارير الإسرائيلية التي تقارن بين القوى العسكرية التركية والإسرائيلية وتظهر التفوق التركي الكبير على الإسرائيليين يزداد القلق، بل إن الكثير من المعطيات التي نشرت كانت مفاجأة كبيرة للإسرائيليين ودفعت بقياديين عسكريين إلى بحث إمكانية طلب المزيد من الموازنة العسكرية لضمان تعزيز القدرات العسكرية الإسرائيلية بما يتوافق والقوى العسكرية التركية. في استعراض سريع لأحد التقارير التي اعتمدتها إسرائيل مصدراً لمناقشة الأبعاد العسكرية والاستراتيجية لأزمة العلاقة مع تركيا تبين أن الجيش الإسرائيلي، الذي كان يصف نفسه ب «الجيش الذي لا يقهر» ما زال متخلفاً في شكل كبير عن الجيش التركي، عدداً وعدة. فهذا الأخير يدرج اليوم كسادس جيش في العالم ويشكل القوة الثانية في حلف شمال الأطلسي بعد الولاياتالمتحدة. عدده وعتاده العسكري يشكلان أضعاف الجيش الإسرائيلي. فمقابل 612 ألف جندي تركي في القوات النظامية ونحو 429 ألف جندي احتياط، يخدم في الجيش الإسرائيلي 187 ألف جندي في الخدمة النظامية فقط وحوالى 565 ألف جندي في الاحتياط. وفي مقابل 265 قطعة يملكها سلاح البحرية التركية لا يملك سلاح البحرية الإسرائيلية سوى 64 قطعة. ومقابل 16 غواصة عسكرية تركية لدى إسرائيل ثلاث غواصات فقط اشترتها من ألمانيا. أما السلاح المعروف ب «كاسحة الألغام» المستخدم لدى سلاح البحرية فتملك تركيا 21 نوعاً من هذا السلاح بينما الجيش الإسرائيلي، لا يملك أية قطعة منها. أما في سلاح الجو فيظهر التفوق التركي في نوعية تكنولوجيا السلاح الذي في حوزته بينما تتفوق إسرائيل في المعدات القتالية، ويظهر هذا في امتلاك إسرائيل 194 طائرة حربية و689 طائرة مروحية وفي هذه الأيام تجري مفاوضات لضمان تقريب موعد حصولها على صفقة طائرات «أف-35» وتعتبر حصولها عليها عام 2017 إنجازاً. وهذا الجانب وإن كان يظهر تفوقاً على تركيا لكن القياديين العسكريين يرون في الأزمة ضرراً لهم، حيث أن قسماً من الأسلحة التركية المتطورة هو من صنع إسرائيلي، مثل الطائرات من دون طيار. وهم يخشون في الأصل من وجود «تكنولوجيا عسكرية متطورة « لدى تركيا من كل من: ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وكوريا الجنوبية وفرنسا وإسبانيا والصين وروسيا. وتعزز التقارير التي تعكس التفوق العسكري التركي على إسرائيل موقف وزير الدفاع، أيهود باراك، ورئيس أركان الجيش بيني غانتس، الداعي إلى تقديم الاعتذار لتركيا. وداعمو هذا الموقف يعتقدون أن سياسة التبجح التي يتبعها وزير الخارجية، أفيغدور ليبرمان، وأمثاله في الحكومة الإسرائيلية يجب أن تتوقف وأن تستبدل فوراً، ويرون أن التعبير عن الندم لما حصل في سفينة مرمرة سيمنع المزيد من تدهور ما تبقى من علاقة بين الدولتين بل يمكن أن يساهم في استئناف العلاقات الأمنية بينهما. فباراك وغانتس يريان في تركيا حليفاً إقليمياً مهماً، وعلى إسرائيل بذل كل جهد لعدم الانقطاع عنه تماماً. وفي المقابل فإن اعتذاراً إسرائيلياً سيمنع عشرات الدعاوى في المحاكم الأوروبية ضد عناصر الوحدة البحرية ومتخذي قرار تنفيذ الحملة ضد سفينة مرمرة. ولذلك لا يكلان عن المطالبة بطي صفحة العداء مع أردوغان ورؤية المصلحة العليا في العلاقات الجيدة مع أنقرة.