عندما قرر المخرج الفرنسي جان - لوك غودار، عقب الصخب السياسي والفني الذي صاحب أحداث «أيار 1968» في فرنسا وفي أنحاء عدة من العالم، ان يشكل مجموعة سينمائية تعمل وتحقّق الافلام في شكل مشترك، اذ خيّل اليه حينه أن عصر الإبداعات الفنية الفردية قد ولّى (!)، وجد نفسه تلقائياً يطلق على المجموعة اسم «جماعة دزيغا فرتوف». في ذلك الحين كان هذا الاسم معروفاً لأهل السينما والنضال عموماً، لكنه كان بالكاد يعني شيئاً بالنسبة الى الجمهور العريض. ولكن منذ ذلك الحين صار الاسم معروفاً، وخصوصاً حين ترجمت نصوص لصاحبه تتعلق بنظريات السينما النضالية وفن المونتاج، ودور الكاميرا بوصفها عيناً حقيقية لا تتوقف عن رصد الواقع... ثم حين بدأ الجمهور العريض يكتشف افلام دزيغا فرتوف، ولا سيما منها فيلم «الرجل ذو الكاميرا» الذي اثار اعجاباً كبيراً، واعتبر عملاً مميزاً حقق في شكل مبكر، ليستوعب وحده كل نظريات التوليف العظيمة التي كانت ترتبط بأسماء معاصرين سوفياتيين لفرتوف، من امثال ايزنشتاين وبودوفكين. منذ ذلك الوقت يعتبر فيلم «الرجل ذو الكاميرا» علامة اساسية في تاريخ السينما ككل. لكنه علامة ذات سمة استثنائية، لأنه في تلك الاحايين على الأقل، لم يكن يشبه افلاماً كثيرة، ولا حُقِّقت من بعده افلام كثيرة تشبهه. ومن هنا اعتبر، على الدوام، فيلماً مشاكساً متمرداً، بل ان البعض قال: «... لكنه ليس فيلماً على الإطلاق». وكان يمكن المراقب المحايد ان يجد قائلي هذا الكلام محقّين إن أراد. ففي «الرجل ذو الكاميرا» ليست هناك حكاية ولو تسجيلية. انه فيلم لا يحدث فيه أي شيء. كل ما فيه بنيته المهيكلة في شكل جيد. وكل ما فيه صوره الملتقطة في شكل مبدع. كل ما فيه انما هو حياة مدينة تفيق صباحاً وتنام مساء... وبين صباحها ومسائها يعيش سكانها حياة عادية لا أحداث فيها ولا مفاجآت... ولم يكن هذا الأمر صدفة في سينما دزيغا فرتوف. بالنسبة الى فرتوف، يمكن السينما الا تصور أي شيء سوى الحياة نفسها... حيث ان تفاصيل هذه الحياة - التفاصيل الصغيرة طبعاً - هي التي تصنع الحياة الكبيرة: حياة البشر في كل يوم. اما اللعبة فإنها تقوم في ضروب الربط التي يقيمها المخرج الفنان، بين التفاصيل. حيث إن اختيار وضع تفصيل معين بعد او قبل تفصيل آخر، هو مجال الإبداع بالنسبة الى الفنان. هنا يصبح للمعنى معناه، وللصورة دورها. وليس هذا، في نهاية الامر، سوى تطبيق متطرف لنظريات ايزنشتاين. نحن هنا، إذاً، وسط العالم المغلق لمدينة. والمدينة هي اوديسا في الجنوب الروسي على البحر الاسود المدينة نفسها التي كان ايزنشتاين قبل ذلك بأربع سنوات، أي في عام 1925، قد صور فيها الجزء الاساس من فيلمه الكبير «الدارعة بوتمكين»، غير ان اوديسا دزيغا فرتوف هي الآن مدينة عادية رتيبة الحياة. وما لدينا هنا هو الحياة اليومية في المدينة: منذ الصباح المبكر يستيقظ «البروليتاريون»، ابكر من غيرهم وافضل من غيرهم، وما كان يمكن دزيغا فرتوف الأيديولوجي الا ان يرصد ذلك - اذاً، يستيقظ «البروليتاريون» في يوم هو مثل كل يوم... ويتسارعون لكي يصلوا الى معاملهم... الآلات سرعان ما تنخرط في حركتها... والشوارع سرعان ما تعمر فيها الحياة... ويصبح الصخب في المدينة واضحاً حيّاً متصاعد الوتيرة. ثم فجأة تحل استراحة الظهر حيث ينصرف «البروليتاريون» الى تناول طعامهم. وبعد الطعام تأتي القيلولة بالنسبة الى معظم هؤلاء، فيما لا يفوتنا ان نلاحظ بعض المحظوظين وقد اتجهوا الى شواطئ البحر حيث يمضون ساعة او بعض الساعة في السباحة والتنزه... ويكون ذلك تمهيداً لحلول المساء، الذي اذ يهبط بالتدريج وتبدأ حركته بالولادة من قلب تعب النهار... يتغير مسار الصورة كلياً: تبدو الكاميرا بحسب تعبير الناقد كلود بيلي وكأنها قد جنّت، وراحت الصور تختلط ببعضها بعضاً... بل راحت الشاشة تتوزع بين صورتين وأكثر في الوقت نفسه. ومن الواضح هنا ان فرتوف انما اراد، عبر هذه القلبة، ان يرينا كم ان سلطة هذه العين السحرية، التي هي الكاميرا، سلطة من دون حدود... مؤكداً لنا ان هذه الكاميرا يمكن ان تكون لها حياتها المستقلة، ويمكن لها ان تشاهد ما لا علاقة له بتصوّرنا عن الواقع. ولسوف يقول فرتوف نفسه لاحقاً انه إنما اراد عبر هذا كله ان يقول لنا ان «الواقع السينمائي ليس اكثر من وهم». وبالتالي قد يتعيّن على المتفرج ان ينتزع سراب هذا الوهم من رأسه، ليحل مكانه جهداً لا بد له من بذله بغية الوصول الى «تحليل تعليمي ضروري للوعي الثوري». غير ان الأهم من هذا البعد «الأيديولوجي» التعليمي - الثوري، انما هو المكان الذي يبدو دزيغا فرتوف راغباً، من خلال هذا الفيلم، في وضع فن السينما فيه. فهو، اذ توخى هنا ان يقدم ما يمكن تسميته ب «السينما الخالصة» ها هو يقول لنا ان السينما بعدما ظلت سنوات طويلة تلت اختراعها، «تسير مقطورة بالأدب والمسرح» اللذين اعتبراها مجرد استكمال لهما، (وهي للأسف رضيت ذلك الاعتبار) ها هي الآن وقد آلت على نفسها ان تكون لها حياتها الخاصة المستقلة وان تكون لها لغتها الخاصة، وبالتالي استقلاليتها التامة كفنّ خالص. طبعاً لم يكن دزيغا فرتوف اول من نادى بهذا، لكن الجديد الهامّ هنا هو إلحاحه عليه بكل هذه القوة في «الرجل ذو الكاميرا» حيث أصبحت الكاميرا والفنان الذي يستخدمها للتصوير، شخصية اساسية، وانفتح الدرب مباشرة بين هذه الكاميرا وصاحبها من ناحية، والمدينة وشتى عناصرها من ناحية ثانية، بعدما كانت الدرب تمر أولاً عبر مظهر اللغة الأدبية واداء الممثلين والموسيقى التصويرية، والمعنى المباشر... ان ما يقوله لنا دزيغا فرتوف هنا، وبكل وضوح، هو أن من واجب «الرجل ذو الكاميرا» ان «يحطم سيرورة ايصال النص كنص، لأن مثل هذا الإيصال يصبح مجرد لعبة تغريبية» وان يبدل ذلك بالسير على خطى الحياة نفسها... على خطى الحياة كما تلوح من دون وسائط او تزويق امام عين الكاميرا. طبعاً مثل هذا الكلام قد يبدو اليوم عادياً، طالما ان عدد السينمائيين والباحثين الذين يؤمنون به، لا يتوقف عن التزايد، غير أن علينا ان تتذكر ان هذا كله اتى به فرتوف في عام 1929، أي قبل انقضاء العقود الثلاثة الاولى من العمر الحقيقي للسينما - اذا اعتبرنا ان البداية إنجازات الفرنسي جورج ميلياس التي كانت المؤسس الحقيقي لفن السينما... لا للسينما كاختراع - بالنسبة الى فرتوف المبكر ذاك، كان هذا الاستخدام للصورة، وللتوليف، إعلان ولادة فن جديد لإنسان جديد... وهو «لهذه الغاية» بحسب الناقد كلود بيلي، «عرف كيف يضاعف تجاربه الشكلية وبحوثه في مجال اللغة السينمائية، متعمداً ان يشتغل على ضروب توليف شديدة التعقيد». ومن هنا مثلاً، الأمثلة التي يضربها بيلي: من تحوّل صورة فرتوف في الفيلم، من غمزة عين الى لقطة ترينا ابواب محال ومخازن ترفع. او من تحوّله من امرأة تتبرج، الى صورة ترينا عملية تنظيف المدينة... ان هذه النقلات هي التي تعطي الدلالة المطلوب إيصالها بالنسبة الى المخرج. ودزيغا فرتوف (وهو الاسم المستعار لدنيس اركاديفتشن كوفمان) ولد عام 1895، وعاش حتى عام 1954. وهو، اذ كان انضم الى الثورة الروسية باكراً، كان من ابرز دعاة تطوير الفنون من مواقع يسارية تماشت مع الثورة اولاً، ثم تمردت على الستالينية الجامدة لاحقاً. ولقد عانى دزيغا فرتوف من هذا التمرد ما عاناه، ومن دون ان يصل الأمر به الى الانتحار احتجاجاً، او الى النفي والاضطهاد القمعي، كما حدث مع اناس من طينة يسينين وماياكوفسكي وتريتياكوف وميئيرهولد. ولقد خلّف فرتوف افلاماً وكتباً نظرية عدة، وتعتبر نظرياته في التصوير والمونتاج، من اهم ما عرفه فن السينما في تاريخه. [email protected]