رجل من الماضي انّها المرة الرابعة يرشَّح فيها جوليان بارنز لأهم الجوائز البريطانية، والأرجح أنه لن يحوزها هذه المرة أيضاً. يتصدّر ألان هولنغهرست اللائحة الأولية الطويلة بروايته «ابن الغريب» التي تتجاوز خمسمئة وخمسين صفحة، فيما يكتفي بارنز بمئة وخمسين صفحة. حجم «الحس بنهاية» الصادرة عن دار جوناثان كيب كافٍ وافٍ، لكن هناك دائماً من لا يرتاح للأعمال الصغيرة ويشير الى الجهد والمساحة والطموح. تذكِّر «الحس بنهاية» بعمل صغير آخر رشح لبوكر وأثار موافقة واعتراضاً. ومثل «تشيزيل بيتش» لأيان ماكيوان، تتناول رواية بارنز اللهفة الى الحب ومعرفة أسرار الجسد والخيبة والندم وإعادة النظر في الحياة بعد فوات الأوان. يقصد فتى خجول طويل القامة، مدرسةً جديدة في الستينات، ويصادق توني وبستر وشلَّتَه الجائعة مثله الى المطالعة والجنس. يستعرض آدريان والرفاق الفتيات ويسعون بنهم الى حصتهم من الثورة الجنسية، ثم يكتشفون أنها «بلى كانت الستينات، ولكن للبعض فقط، وفي أجزاء معينة من البلاد». يتعرفون الى وجهها القاتم حين يشنق روبسن نفسه بعد أن تسبّب بحمل فتاة، وترك رسالة لوالدته: «آسف ماما». أحب آدريان ألبر كامو، وكانا من ألمع الأصدقاء الذين أقسموا على أن يبقوا أوفياء الى الأبد. حتى في السادسة عشرة كان الفتى قادراً على القول لمعلم التاريخ إن أسباب الحرب العالمية الأولى من مشاكل التاريخ الأساسية. «مسألة التفسير الذاتي مقابل ذلك الموضوعي، وواقع حاجتنا الى معرفة تاريخ المؤرخ لكي نفهم تفسيره للتاريخ». يسترجع توني حياته العادية بعدما تزوج وأنجب وطلّق طلاقاً سعيداً، يعتقد. لا بأس بعلاقته بابنته وزوجته السابقة، وإذ يزن واقعه بعد التقاعد، يراوح بين القناعة والتساؤل. « شئت ألا تزعجني حياتي كثيراً، وكم يثير ذلك الاحتقار». مع تقدمه في العمر، يرى أن الهدف من الحياة هو إعدادنا لخسارتها، ويتساءل عما عرفه من الحياة. لم يربح أو يخسر، ولكنه ترك «الحياة تحدث له» بإذعان. يستلم رسالة من محام يُعْلِمه أن والدة صديقة سابقة توفيت وتركت له خمسمئة جنيه ويوميات آدريان. يعود الشاب الى حياته بعد أربعين عاماً من دون أن يكبر. ذهب توني الى جامعة بريستول في حين قصد آدريان كمبريدج. صادق فيرونيكا، التي دعته الى قضاء نهاية الأسبوع في منزلها، فشعر بضيق لا يفهمه حتى بعد أربعة عقود. كانت من طبقة أعلى وأذلّه والدها وشقيقها المدَّعيان، في حين استلطفته والدتها وبدت كأنها تحذره من ابنتها. حقدت عليه عندما تركها وواعدت آدريان، الذي تزوجها ثم قطع شرايين يده في الحمام. كان في الثانية والعشرين، وبدا انتحاره أول الأمر رد فعل على ما اعتبره كامو المشكلة الفلسفية الوحيدة في الوجود. كتب كامو عن المواجهة الدائمة بين الفرد الباحث عن المعنى والنظام والوحدة والكون الفوضوي الصامت اللامبالي. هذا هو الوضع البشري العبثي: محاولة مستمرة لاشتقاق المعنى مما لا معنى له. اعتبر الانتحار المسألة الأساسية للفلسفة الأخلاقية، ولم يتوقف عند المعاناة الطويلة الأليمة من المرض، أو التأثر بمأساة شخصية سبباً له، بل رآه رداً على الوجود العبثي. خلافاً للمتوقع، قال إن الاستجابة الشجاعة والأخلاقية الوحيدة للعبثي هي متابعة العيش، ف «الانتحار ليس خياراً». يبحث توني عن اليوميات ليفهم الماضي ويغلقه. ستشرح هذه مشاعر وتصرفات كثيرة، لكن فيرونيكا تقول إنها أحرقتها بعد وفاة والدتها. «أنت لا تفهم. لم تفهم. ولن تفهم على الإطلاق» تردّد مرة تلو المرة. يكتشف توني الحقيقة وسط مناخ شيّق يكتفي فيه بارنز بالضروري من اللغة من دون أن يقلقه حجم الرواية أو شجون الجوائز، ويعرف «البطل» أن فيرونيكا ضحية لا جلاد كما حسب. رحلة الحزن يختار غراهام سويفت عبارة مبتذلة عنواناً لروايته التاسعة « أتمنى لو كنت هنا» الصادرة عن دار بيكادور. عمله الأخير الذي تجاهلته اللائحة الأولية لجائزة مان بوكر يدور بين مرضَيْ جنون البقر والحمى القلاعية في بريطانيا، والهجوم على مركز التجارة العالمي في أميركا. يجد جاك لاكستن نفسه فجأة، وهو في آخر الثلاثينات، الأخيرَ في عائلته. زارت الأسرة العريقة التي عاشت شمال ديفون سنوياً نصب الضحايا المحلي ثم اتجهت آلياً الى الحانة. قتل اثنان من الأجداد، الشقيقان جورج وفرد، في يوم واحد في معركة السوم في الحرب العالمية الأولى، وحفر اسماهما على النصب. لم يستطع الضابط تمييز أحدهما عن الآخر فمنح وسام البطولة، في فعل رمزي، لجورج، شفيع البلاد. افتخرت الأسرة بوجودها الراسخ في المنطقة منذ أربعمئة عام، وباتت مزرعة الحليب التي توارثتها رمزاً للوطنية والأرض. لكن جاك العملاق اللطيف باعها لمصرفي من لندن سُحر وزوجته بشجرة البلوط الكبيرة والثقب فيها. ذات يوم اتكأ الأب على جذعها، وركز فوهة البندقية على جبينه وأطلق النار. ثقب رأسه والجذع. في اليوم الذي يبلغ توم الثامنة عشرة يهرب من البيت التعيس تاركاً شقيقه وحده مع الأب النائي. أيهما كان أكثر شجاعة؟ الفتى الهارب الى الحرب والموت، أو شقيقه الخاضع لتقليد الأسرة وتوقعاتها؟ كافح جاك، الذي يكبر توم بثمانية أعوام، لإنقاذ المزرعة، لكن مرض الماشية هزمه. أحس مع إيلي، جارته وصديقته، أنهما عبدان لذويهما، ومع رحيل هؤلاء يتركان الأرض خلفهما الى جزيرة وايت، التي لا يعتبرها جاك جزءاً من البلاد. يستثمران مالهما في مشروع سياحي يزدهر ويتيح لهما قضاء بعض الشتاء في البحر الكاريبي. لكن جاك لا يتسلى هناك، ويشتاق الى الجزيرة التي كره الرحيل عنها بعد نزوحه اليها. يرث توم تاريخ العائلة الآخر. ينخرط فوراً في الجيش ويقاتل في البوسنة والعراق، ويتجاهل رسائل شقيقه. حين يقتل بانفجار، يعود جاك الى الريف الإنكليزي ليستلم جثته من المطار، ويقرّر دفنه في البلدة التي عاش فيها. وإذ يهتم بتفاصيل الجنازة، يجد نفسه إزاء أسئلة حول الهوية والجذور. حتى الشجار الصغير مع إيلي يؤدي الى تأمله في الهوية الإنكليزية وانهيارها، والى فعل شخصي غير مبرّر وإن كان مثله مألوفاً في أعمال سويفت. يحمل البندقية ويجلس على السرير وهو يحدّق في دخان حرائق الماشية، وينتظر عودة زوجته التي ركبت السيارة إثر المشاحنة وانطلقت بها. يكتب جاك الكتوم بطاقتين بريديتين طوال حياته، إحداهما الى إيلي من مركز سياحي داخل البلاد أمضى فيه مع والدته وشقيقه أسعد الأوقات في حياته. طلب مساعدة الأم في الكتابة فاقترحت: « أتمنى لو كنت هنا»، التي جهل حينها أنها كانت من أكثر العبارات رواجاً في اللغة الإنكليزية. قبل مغادرة توم البيت للمرة الأخيرة، أعطاه جاك بطاقة كتب عليها جملة بدائية: «حظاً سعيداً، توم، سأفكر بك». مع عودة الأخ الأصغر جثماناً، يقلق جاك من الكلمة التي تفرض المناسبة عليه إلقاءها. يجد نفسه وسط البذلات العسكرية والطقوس المهيبة والوجوه المتعاطفة الحزينة، لكنه يحس بالعجزعن لعب دورقريب الفقيد المفجوع أمام عيون الأمة. فنجان شاي تفصّل فرجينيا نيكلسن في «ملايين مثلنا: حياة النساء في السلم والحرب»، التغيرَ الذي طال وضع البريطانيات بين 1939 و1949. رحّب العدد الضخم من العاملات في الخدمة المنزلية بفرصة مغادرة مخدوميهم الأرستقراطيين للقيام بعمل أكثر إشباعا في الهندسة وصناعات السيارات والمعادن والمواد الكيماوية. على أنهن واجهن مخاطر جسدية ونفسية. وجدت العاملات في مصنع ذخيرة أنهن إذا أسرعن في شحذ المعدن طارت شظايا واستقرّت في عيونهن، ولم تكن هناك وسيلة لاستئصالها غير قطرة العين وقطعة مغناطيس. كان عليهن أيضا تحمل تحرش الرجال الذين لم يعتادوا العمل مع النساء. حملت هؤلاء، وبينهن مراهقات، السطل وخرجن بعد الغارات ليضعن فيه بقايا جثث الضحايا. أجلي آلاف الأطفال من لندن الى الريف والخارج لإنقاذهم من القصف الألماني، ورافقتهن متطوعات في رحلاتهم. كانت المعلمة ماري كورنيش على متن « أس أس سيتي أوف بيناريس»، وكانت الفتيات اللواتي وضعن في عهدتها بين سبع وسبعين ضحية غرقت إثر إصابة السفينة بتوربيدو. بقيت ثمانية أيام في قارب إنقاذ مع ستة فتيان، رفهت عنهم برواية القصص وغناء «اركض يا أرنب اركض». تجنبت الحديث عن محنتها بعد إنقاذها معهم، وبقي الفتيان يتصلون بها حتى وفاتها. وجدت النساء السلوى في الشاي والجنس، وارتفع عدد الزيجات والطلاق معاً. كثرت الخيانات الزوجية والعلاقات العابرة، وبات التعبير الجسدي عن المشاعر فعل تحدٍ للحرب والموت. عانت النساء من النقص في الشريط المطاط في الملابس الداخلية، و «من محطة ترورو للقطار الى السفارة البريطانية في القاهرة، انتشرت سراويل النساء الداخلية على الأرض وتسبّبت لهن بحرج مذعور». رغم المآسي، توقعت النساء، من الشرطيات الى عاملات الهاتف، مستقبلاً أفضل حتى بعد انتهاء الحرب واسترجاع الرجال العائدين منها وظائفهم. أحسسن بالرضى لخبرتهن غير المسبوقة، وأدركن أنها ستؤثر إيجاباً على المستقبل وإن قفز التغيير جيلاً وتعلق ببناتهن.