قصة هذه الرواية الممتعة بسيطة، لكن الشيق فيها هو سردها الاسترجاعي. في هذا الاسترجاع يكتشف الرواي ونكتشف معه خداع الذاكره وانتقائيتها. تأملات النص هي في «العادي» و «اليومي»، بيد انها عميقة تدور حول معنى الحياة وانقضاء العمر. اشخاصها عاديون، وفي عاديتهم تكمن اسئلة الحياة الملغزة، وجملتها قصيرة ومكثفة، ومدهشة الإتقان. «ادريان» هو الشخصية الوحيدة الخارجة عن النمط «العادي» في الرواية، وهو عملياً بطلها. حادثة انتحاره المبكرة جداً وهو لم ينه دراسته الجامعية هي نقطة الارتكاز الاساسية، إن لم تكن الوحيدة التي اتاحت فوراناً درامياً دائماً اغنى النص حتى الصفحة الاخيرة. لماذا انتحر ادريان؟ سؤال كان جوابه جاهزاً في الشرح المطول الذي تركه في رسالته الفلسفية المدهشة. مع ذلك بقي السؤال قائماً. وبقي توني، الراوي وصديقه القريب في سني الدراسة الاولى، يعود إليه مستدعياً الاحداث من الذاكرة الواضحة حيناً والغامضة أحايين كثيرة. «الاحساس بالنهاية» لا تنتمي إلى اي نوع «ملحمي» من الرواية، بل تغوص رأساً في ذاتية الراوي ودائرة الافراد الضيقة ممن شكلوا مفاصل حياته. حجمها القصير يضيف بعداً آخر غامضاً إلى «غياب الملحمية» فيها، قياساً بروايات اخرى فازت بالجائزة نفسها في السنوات الماضية (مثلاً رواية هاورد جاكبسون «سؤال فنكلر» الفائزة بالجائزة العام الماضي تجاوزت صفحاتها الثلاثمئة، فيما قاربت رواية هيلاري مانثل «قاعة الذئب» الفائزة بالجائزة عام 2009 ال 550 صفحة). النص في جزئه الاكبر هو تداعيات ذاكرة توني وبستر، الراوي الستيني الذي انشدّت سنواته اللاحقة إلى وتد سني العشرينات من العمر. حياته كلها تأثرت بسنوات المراهقة المُكثفة ولم تستطع ان تفلت من قيد ذكريات يربطها بفترة الثانوية ثم سنوات الجامعة الاولى. توني يسرد على قارئه السنوات الاولى وكيف تشكلت حلقة الاصدقاء الاربعة في مناخ انكليزي اقرب إلى المحافظة على رغم جموح حقبة الستينات التي اشتهرت بالثورة والتمرد في السياسة والحياة والجنس. كما هي إملاءات عمر المراهقة، كانت «عصبة» الاصدقاء لا ترى في الانظمة والتعليمات والالتزامات التي حولها سوى قيود عبودية لا تستحق إلا التمرد عليها (مثلاً، لم نكن نرى في التمارين الرياضية المفروضة علينا سوى ممارسة فاشية لقمع رغباتنا الجنسية، ص 7). تعاهد الاصدقاء على أن يبقوا كذلك مدى العمر وعلى الضد من كل الظروف. لم تكن ثمة حاجة لمرور سنين طويلة كي ينهار ذلك العهد تحت ضربات قسوة الحياة المعتادة وتباين مسارات الاصدقاء الحميمين فيها. في ثانويتهم كانوا جائعين لأمرين: الكتب والجنس، التهموا الكتب لأنها متاحة، وظلوا شبقين للثاني لأنه اقل توافراً. اقتحمت فيرونيكا حلقتهم الضيقة، كحبيبة لتوني، ثم ما لبثت ان أُعجبت بأدريان المختلف. أدريان الاعمق والاكثف قراءة، والاقل كلاماً. ادريان فيلسوف المجموعة بلا منازع، وكان حصل على منحة إلى كامبردج بسبب تفوقه. ادريان الوحيد الذي امتلك جرأة الانتحار عن وعي واقتدار، وليس عن يأس من الحياة. توني يقص علينا وهو في الستين تفاصيل قصته وفيرونيكا وأدريان التي حدثت قبل اربعين سنة. يقع في شرك خداع الذاكرة ومخاتلتها. متعة النص تكمن هنا بالضبط. في الاختبار والسؤال الذي يتمدد في كل صفحة: هل هذا فعلاً ما حدث؟ لماذا يتذكر توني تفاصيل مدهشة حول امر سخيف، مثلاً: كيف كانت ام فيرونيكا تقلي الزيت والبخار الذي يتصاعد مع كل قطعة لحم تلقيها في المقلاة، عند زيارته لأهلها؟ وفي الوقت نفسه: لماذا تمتد ثقوب سوداء طويلة على مدى ازمنة تبدو الآن وكأنها خالية من كل حدث؟ اين يكمن اللغز في الذاكرة وكيف تنتقي احداثها وشخوصها وأبطالها وتبقي من كل ذلك ما تريد وتسقط ما لا تريد؟ بل وكيف تعمل على سد الثغرات وإقحام تسلسل منطقي لربط الاحداث، يزيد عليها من الخارج، ربما من قصص سمعها توني من هنا او هناك، ويظن الآن انها جزء من ذاكرته. أصدقاء ومصائر يتذكر ملياً كيف تباعدت لقاءات الاصدقاء بعد ان التحق كل منهم بجامعة. لم ينجح الاتفاق الذي صمموا بناء عليه ان يلتقوا مرة واحدة في كل سنة على الاقل. يتذكر كيف لم يعد يعرف شيئاً عن مصير كولن وألكس. الوحيد الذي اصبح مصيره واضحاً في الذاكرة هو ادريان المنتحر. عندما تركته فيرونيكا، بسبب «عاديته» (او لكونه مملاً؟) وأصبحت حبيبة أدريان، انفرط عقد العلاقة بين الصديقين. ما يتذكره توني هو ان ادريان وفيرونيكا ابتعدا عن توني وربما احتقراه ايضاً. يتعاطف توني مع نفسه ونتعاطف معه، اعتماداً على ما تخبرنا به ذاكرته. لكننا، وهو، نكتشف في الربع الاخير من الرواية ان ذاكرة توني اسقطت تماماً رسالة غاضبة وقميئة كان قد بعثها إلى الإثنين عندما ارتبطا ببعضهما بعضاً. لم يترك كلمة بذيئة في القاموس إلا واستخدمها. اتهم ادريان بالخيانة والقذارة، وهو من كان قد استأذن توني في علاقته مع فيرونيكا بعد ان انهت علاقتها تماماً مع توني. هل عذبت تلك الرسالة الدنيئة روح ادريان وقادته إلى الانتحار؟ لا, لم ينتحر ادريان لهذا السبب البسيط و «العادي». ادريان، وكما ينقل لنا توني، بحياد أحياناً، لكن بغيرة احيان اخرى، كان اكبر من ذلك وأعمق، كان من اولئك القلائل ممن يمكن وصفهم ب «فوق العادي». توني هو «العادي» average الذي لا يضع قدمه في مكان قبل ان يتحسسه، الذي يحسب كل شيء مسبقاً، وهو يرى ذلك مؤكداً في ذاته اليوم: متقاعد في بيت كل شيء فيه معروف، وفي حياة بالغة النظام، حتى ترتيبات جنازته بعد موته صارت جاهزة ومرتبة مسبقاً. لا مكان للمفاجآت. ادريان مختلف. من ايام الثانوية اغرقه السؤال التأملي والفلسفي وأنهكه. عندما انتحر احد طلاب المدرسة بسبب انكشاف علاقة حب له مع طالبة قادت إلى ممارسة جنسية ثم حمل، قال ادريان ان الانتحار هو العمل الوحيد الذي يتصف بالحكمة والشجاعة، واقتبس مقولة كامو الشهيرة «الانتحار هو السؤال الفلسفي الحقيقي الوحيد». يسترسل جوليان بارنز في تأمل الانتحار في شكل مدهش، وهو استرسال يذكرنا عربياً، باسترسال عبده وازن في «قلب مفتوح» حول الامر نفسه. ويستحق الاسترسالان وقفه منفصلة ربما. كان ادريان شكاكاً في كل حقيقة. في درس التاريخ يدخل في نقاش لا آخر له مع الاستاذ حول ما هو التاريخ، ومن يكتبه؟ يجيب عن سؤال استاذه قائلاً: «التاريخ هو اليقين (الظاهري؟) المتولد عن تكامل الذاكرة المنقوصة مع التوثيق المنقوص». كيف تؤرخ لذاتك بعيداً من ملحميات التاريخ الجمعي، وبعد مرور اربعة عقود؟ وبعد غياب الشهود القريبين من حياتك، وربما موت كثير من أبطال قصتك؟ كيف يمكن ان يتحقق التأكد والتوثيق Corroboration من «القصة» المُجمعة من جزئيات وشظايا تتداخل ازمانها وأمكنتها؟ وكيف يمكنك ان تؤرخ للعاطفة والمشاعر، الحب، الغضب، النقمة، اللامبالاة، وتستدعي سخونة لحظاتها، او تحميها من موقف الراوي الآن في تمام نضجه (المُدعى) ونظرته الورائية لحياته الماضية بكل ما فيها من ثقوب الذاكرة السوداء؟ لماذا انتحر ادريان؟ في رسالة فيها نفس إغريقي من الحكمة والتراجيديا، قال إن الحياة منحة من الطبيعة للناس، لكنها منحة فوقية، اي رغماً عنهم وعن إراداتهم. كيف يمكن ان تمنح فرداً شيئاً لم يطلبه؟ قال ادريان انه لا يريد قبول المنحة، شكراً لكم. بين جراءة ادريان و «عادية» توني يتقلب النص على سؤال النهاية: النهاية المنتظرة التي يراها ابن الستين قادمة في اتجاهه يوماً بعد يوم. والنهاية التي ذهب إليها ادريان بوعي، ايقظها من نومها، ركلها بقدمه، وتربع فوقها. توني متشظ في انتظاره للنهاية كما هو متشظ في انتظاره لذاكرة تستدعي البداية. احساسه بالنهاية المحتومة يوماً بعد يوم يجعله يُكبر ادريان اكثر وأكثر. ادريان رحل شاباً، يافعاً، منطلقاً. لم يأت الصلع على شعره، ولم تدكّ جسده الامراض. رد المنحة غير المطلوبة باكراً.