خليط من رائحة الشاي الكردي الممزوج بنكهتي حبّات الهال وماء الورد، وأحاديث تختلط فيها اللهجات الكردية التي لا يميزها سوى سكان المدينة... إنه «مقهى الشعب»، أقدم وأشهر مقاهي «شارع كاوه» في مدينة السليمانية في كردستان العراق. المقهى الذي لطالما اجتذب الشعراء والفنانين والصحافيين وبعض رجال السياسة، مزينة جدرانه بعشرات الصور لروّاد من بينهم شاعر السليمانية الشهير رحيم مولوي. ومنذ أن أنشأ كريم حمه أمين ذلك المقهى البسيط في مطلع خمسينات القرن الماضي، لا يزال المكان ملجأ الشعراء والأدباء والرسامين والصحافيين، الذين يفدون إليه من كل الأقضية والنواحي والقرى المحيطة بالسليمانية. بكر حمه أمين، نجل صاحب المقهى وهو الذي يدير المكان اليوم بعد وفاة والده، قال ل «الحياة» إن المقهى يستقبل يومياً أكثر من 300 زبون، وإن «غالبية هؤلاء ترتاده منذ عقود، لا تستغني عنه ولا يستغني عنها، إنها العادة واللقاءات والوجوه الأليفة». بل يذهب بكر إلى إثبات «الرباط العائلي» الذي يولّف بين المقهى وروّداه الدائمين، إذ إن غالبية أجهزة التبريد الصغيرة في المقهى هي حصيلة تبرعات بعض الزبائن المخلصين إضافة إلى وجهاء الحي الذين يسعون إلى الحفاظ على تراث المكان. الرنّات الجرسية الصادرة عن دوران الملاعق الصغيرة وسط أقداح الشاي التقليدية، المعروفة في العراق باسم «استكان»، تكشف التقاليد الراسخة في شرب الشاي العراقي في ذلك المقهى المضلّع الذي طاولته تغييرات كبيرة على مرّ السنوات الماضية. أما صور الشعراء والكُتّاب ومشاهير المدينة المعلقة على جدران المقهى، فبعضها لتأكيد هوية المكان الثقافية بما ينسجم مع أهواء وأذواق وميول أدبية وسياسية وفنية لدى الروّاد، والبعض الآخر تخليداً لذكرى من كانوا هم أنفسهم من الزبائن الدائمين للمقهى وهم من النخبة المحلية الثقافية والسياسية. وتطلّ تلك الوجوه في الإطارات المتعددة الأشكال والألوان والتي بالكاد تترك فسحة فارغة على أي جدار، على الرؤوس التي تتقارب تحتها منخرطة في أحاديث حماسية وقد يكون بعضها من جلسات النقاش الشعبية الموسعة التي يتداول فيها الجالسون مواضيع السياسة والفن والأوضاع السائدة في البلاد، فيما ينشغل بعض الشباب الذين بدأوا يرتادون المقهى حديثاً بلعب «الدومينو». الصحافي والكاتب الكردي أسود محمد مصطفى يرتاد المقهى منذ أكثر من أربعين سنةً. قال ل «الحياة» إن الشهرة التي اكتسبها المقهى طوال العقود الماضية ساهمت في زيادة عدد مرتاديه من أهالي المدينة، فضلاً عن السياح الذين يتقاطرون إلى المكان أفواجاً. ولا يزال الكاتب المخضرم يتذكر أيام شبابه، وبدايات زياراته المقهى حينما لم يكن يزيد على منزل صغير، له قاعة استقبال مستديرة، يتجمع فيها مخاتير الأحياء السكنية الصغيرة المحيطة بالمكان مع «كُتّاب العرائض» لسماع شكاوى الناس. رواد «مقهى الشعب» الذين ترتسم على وجوههم تعابير مختلفة، ويبتسم كثيرون منهم في وجوه الزائرين الجدد، يبدون أكثر إصراراً من صاحب المحل نفسه على الحفاظ على تاريخ المكان الذي توارثوا عادة الجلوس فيه مثلما توارثوا حب مذاق الشاي الكردي في أقدم المقاهي الكردية في السليمانية.