أصدرت مجلة «السياسة الدولية» التي تصدر عن مؤسسة «الأهرام» عددها الجديد (تموز / يوليو 2011) ويتضمن بالإضافة إلى مقالاته المهمة ملفاً رئيسياً عنوانه «الإقليمية الجديدة» وله عنوان فرعي هو «الأدوار المتحوّلة للاعبين الأساسيين في الشرق الأوسط». وهو يحاول بصورة منهجية دقيقة رسم الخريطة السياسية المتحولة للشرق الأوسط، وصعود قوى سياسية وهبوط قوى أخرى، في سياق من التفاعلات البالغة التعقيد، ووفق إيقاع بالغ السرعة، مما يجعل متابعة الأحداث ذاتها مهمة شاقة، فما بالكم بالتنبؤ بوقوعها؟ وقد أشار إلى هذه المشكلة ملحقان جديدان لمجلة «السياسة الدولية» يتضمنان إضافة معرفية متميزة للقارئ. الأول بعنوان «عالم من عدم اليقين» وله عنوان فرعي هو: كيف تتعامل الدول مع تحولات إستراتيجية شديدة التعقيد؟ وترصد هذه الدراسة التي حررتها الباحثة إيمان رجب أكثر من عشر نظريات حاولت الاقتراب من ظاهرة عدم اليقين وفهمها، من بين هذه النظريات على سبيل المثال مجموعة نظريات تقليدية سبق استكشاف أبعادها وتطبيقاتها من قبل في حقل العلاقات الدولية، وأبرزها «نظرية الاحتمالات»، و»نظرية المباريات»، و»معضلة السجينين». غير أنها تضم أيضاً نظريات جديدة ذاعت في العقود الأخيرة وأبرزها نظرية «الفوضى الخلاقة» التي كانت تتبناها كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، «ونظرية التعقيد»، وأحدثها نظرية «البجعة السوداء» التي صاغها نسيم نيكولاس في كتاب له صدر بهذا العنوان عام 2007. ووفقاً لهذا المفكر فإن أغلب الأحداث الكبرى في التاريخ، بما في ذلك الاكتشافات العلمية، كانت في الأغلب غير موجهة أو متوقعة. وحدث «البجعة السوداء»، أي الحدث المفاجئ بهذا المعنى يتميز بثلاث خصائص: أولاها أنه مفاجئ للمراقبين، وثانيها أنه عظيم الأثر، وأخيراً أنه بعد حدوثه للمرة الأولى يمكن تبيّن أنه لم يكن مستحيلاً على التوقع. ينطبق ذلك على وجه الخصوص على كل من الثورة التونسية والثورة المصرية. ولذلك كان مالك عوني محرر ملحق «تحولات استراتيجية» الذي صدر مع العدد الأخير من «السياسة الدولية» موفقاً غاية التوفيق، حين تساءل في تقديم الملحق: لماذا فوجئنا؟ إشكاليات ظهور البجع الأسود في المنطقة العربية! والذي يلفت النظر أن المفاجأة الصاعقة لم تصب المراقبين السياسيين في كل من تونس ومصر فحسب، بل إنها أصابت المحللين السياسيين في الدول الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة الأميركية، بالدهشة الشديدة! مع أنها تمتلك مراكز استراتيجية عالية المستوى وتصدر دورياً تنبؤات متعددة عن الأوضاع في العالم العربي، كما أن لديها أجهزة استخباراتية لها عيون متعددة تراقب منها الأوضاع على مدار الساعة. فكيف حدث أن تشتعل ثورتان في وقت متقارب هما الثورة التونسية والثورة المصرية، من دون توقع، مع أنه كانت هناك مؤشرات كمية وكيفية متعددة على تزايد معدلات السخط الشعبي في كلا البلدين؟ هنا تكمن مشكلة «عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ» التي تسم النظام الدولي الراهن، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، وتحول النظام الدولي الثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية تهيمن عليه الولاياتالمتحدة الأميركية. ومن هنا يمكن القول أن المفاجأة الاستراتيجية - إن صح التعبير- التي أحدثتها كل من الثورة التونسية والثورة المصرية، هي إحدى ملامح المشهد الإقليمي والعالمي الراهن. غير أن هناك ملمحاً آخر يتعلق بالجانب الفكري والمعرفي، وهو ما لم يلتفت إليه كثير من الباحثين العرب والأجانب. وهذا الجانب التفت إليه فواز طرابلسي الأستاذ بالجامعة اللبنانية في مقاله مضيئة له نشرت في جريدة «الأخبار» في 12 أيار (مايو) 2011 بعنوان «الثورات تسقط أنظمة الأفكار أيضاً». وقد استطاع طرابلسي أن يضع يده على «الأسباب التي حالت دون استشعار الانتفاضات في توقيتها وزخمها وتزامنها وعفويتها وأهدافها، هو أن البحث في أزمات المنطقة كان يجري في حقل آخر، وبأدوات بحث واستخبار لا تصلح لمثل هذا الرصد». ويقرر أن هذا الحقل هو «حقل خطاب عالمي مهيمن تبلور بعيد نهاية الحرب الباردة، وتكرس بعد هجمات 11 أيلول 2001». وهو بكل بساطة خطاب الليبرالية الجديدة المتعولمة وأجنداتها المتكاملة، والتي طالت مؤسسات وقوى مدنية وأهلية وأحزاباً سياسية ومثقفين في مجالات متعددة. ففي مجال الهوية روّج هذا الخطاب للتعريف الثقافي الديني للشعوب والمجتمعات، وعمّم مقولة الاستثناء الإسلامي. وفي ميدان السياسة أذاع أفكاراً متعددة عن نظرية المجتمع المدني في علاقته بالدولة، كما نشر أفكاراً عن شيوع ظاهرة «العجز الديموقراطي» في العالم العربي. أما في دائرة الاقتصاد فقد سعى إلى تفكيك الدولة التنموية، وفرض الخصخصة وديكتاتورية الأسواق، وتربية الجيل الجديد من الشباب على «الريادة في الأعمال». بعبارة مختصرة فرض نموذجاً يقوم على استقالة الدولة من أداء وظائفها التنموية، وترك الحرية المطلقة لقوى السوق التي تعمل بناء على آلية العرض والطلب. وإذا نظرنا إلى طريقة هذا الخطاب المعولم في الاقتراب من الظواهر الاجتماعية، نجده يركز على حساب معدلات الفقر، غير أنه لا يتطرق إطلاقاً إلى إبراز الفجوات الطبقية ولا الفروق الاجتماعية، وهو يرفع شعارات مزيفة عن أهمية الشفافية لمواجهة ظاهرة الفساد المعمّم الذي انتشر في كل جنبات المجتمع العربي، وهو بالتالي يصرف النظر عن البحث العميق في جذور الفساد السياسي والاقتصادي الذي تمارسه الطبقات الحاكمة المهيمنة الكامنة في صميم النظام الاقتصادي والبنية الاجتماعية. أما في العلاقات الدولية فقد رفع هذا الخطاب شعار «الحرية ضد الإرهاب» الذي صكّه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وكأن له الأولوية القصوى وذلك على حساب ظواهر عدم التكافؤ في التعامل الاقتصادي بين الدول الكبرى والدول النامية، وازدواج المعايير في قضايا حقوق الإنسان، والتحيز المطلق للهيمنة الإسرائيلية على مقدرات الشعب الفلسطيني، وظواهر التمييز العنصري السائدة في أنحاء شتى من العالم. الفكرة الرئيسية التي أشار إليها فواز طرابلسي باقتدار هي أن الانتفاضات الشعبية العربية التي تحولت إلى ثورات، ركزت على مكامن الخلل الأساسية في الخطاب العولمي المهيمن وما استتبعه من ممارسات. بعبارة أخرى، مهمة الحكم الثوري الجديد في كل من تونس ومصر بعد أن نجح في هدم النظام الاستبدادي القديم، هي إسقاط المقولات الفكرية التي روج لها الخطاب العولمي المهيمن، وصياغة مقولات جديدة تقوم على أساس الحرية والعدالة الاجتماعية. ولذلك لم يكن غريباً أن يكون أول تصريح لنائب رئيس الوزراء المصري الجديد الدكتور علي السلمي، هو ضرورة إلغاء برنامج الخصخصة نهائياً، واسترداد مؤسسات القطاع العام التي بيعت لرجال أعمال بأبخس الأثمان، وتفعيل قوى الإنتاج في القطاع العام، والارتفاع بمستوى تأهيل خبرائه من مديرين ومهندسين وعمال حتى يعود مرة أخرى ليعمل في خدمة الشعب. ومما يدل على زيف مقولات الخطاب المعولم عن سيادة ظاهرة «العجز الديموقراطي»، أن ملايين العرب الذين نزلوا إلى الشوارع مطالبين بالحرية في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية والبحرين، تدل دلالة مؤكدة على أن العالم العربي تسوده حالة من حالات «الفائض الديموقراطي»، الذي يفتح آفاقاً واسعة من الحرية أمام الجماهير العربية التي رفعت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، وانتقلت من بعد إلى شعار جديد هو «الشعب يريد الحرية كاملة غير منقوصة»، بما يعني القضاء نهائياً على احتكار النخب السياسية العربية الحاكمة لعملية إصدار القرار! * كاتب مصري