إنها إذاً معضلة في اليسار في بلاد الثورات، وفي سوريّة خصوصاً! في الواقع، لا تقف «المسألة اليسارية» عند حدود الأزمة العابرة، بل تتعداها إلى مأزق جدّي فاقمته هذه الثورات، وأفقٍ مسدود باتت ملامحه تتجلّى من جهة في تورّط «اليسار الممانع» بمواقف سياسيّة محكومة بعقليّة سادت تفكيره خلال الثمانينات وما زالت، ومن جهة أخرى في ببغائية بعض اليساريين الراديكاليين ووصفاتهم المعلّبة، ومن جهة ثالثة في الانحدار إلى شعبوية الطروحات والشعارات لدى فئة الحائرين، في محاولة لاهثة للّحاق بالشارع. يتّضح تراجع اليسار، بأنماطه الثلاثة، من خلال انقسامه الشاقولي أولاً، وتكاثف انسحاب كوادره وقواعده من تنظيماته وأحزابه ثانياً، وعجزه حتى الآن عن الخروج بخطاب يساري متماسك واضح المعالم، وجماهيري في آن معاً، يعالج القضايا الراهنة أثناء الثورات وما بعدها. أما «اليسار الممانع»، فهو «اليسار الرسمي» الذي يمكن نمذجته (ومن دون أي محاولة لمحو الفوارق في ما بينها) في قيادات الحزبين الشيوعيين «الجبهويين» السوريين (بكداش/ فيصل)، وكذلك في قيادات الحزب الشيوعي اللبناني (حدادة). أحزاب مهجوسة بالعداء للإمبريالية، لدرجةٍ تعميها عن حسن نية أو عن سوء نية، عن رؤية أي بعد آخر لأي حراك شعبي سوى كونه مجرّد بدعة. أحزاب نسيت مهمّاتها المتمثلة في التقدّم والعدالة الاجتماعيين، وإبطال الطائفية، والديموقراطية، فرمت ببوصلة «الحلقة المركزيّة» السوفياتية، لتمسك بوصلة «الممانعة»، على عجرها وبجرها، وعلى ما يعتور هذه الممانعة من جوهر طائفي واستبدادي. النمط الآخر هو «اليسار المعلّب»، الممسك بقوالب ينحشر فيها ولا ينظر إلا من ثقوبها، فيرى أن ما تشهده سورية والبلدان العربية محض ثورات لقيطة، لم يأت ذكرها في سجلات التاريخ. نمط لا يتردد بطرح تساؤلات ظافرة من قبيل: «أين النظرية الثورية التي تؤدي إلى حركة ثورية؟»، و «أين الطليعة الثورية الممثلة بالحزب الثوري؟»، و «من هم أصدقاء الشعب؟»؛ فتراه يبتسر الماركسية وحتى اللينينيّة في مقولات سبق أن علّبها ستالين ضمن «خراطيش» كتابه «أسس اللينينية». هؤلاء يستخدمون مساطر مدرسيّة في بحثهم عن ثورات على مقاس كرّاساتهم، تناسب بَبّغائيتَهم في قراءة إرث لينين وتروتسكي وغيرهما في صناعة الثورة، ولا يستطيعون أن يروا أن الشعوب بقواها الاجتماعية متناقضة الأهداف والرؤى، قد توافقت على الانتهاء من الاستبداد. النمط المأزوم الثالث هو «اليسار الحائر». وهو ذلك الذي رمى جانباً كل تراثه الفكريّ والنظريّ، ولحق بالشارع، محقّاً، لكنْ مصرّاً على البقاء وراءه، على رغم حاجة هذا الشارع المنتفض الثائر إلى بُعد نظريّ فكريّ لثورته، لا يكتفي بقراءتها وأرشفتها، على ما لهذه القراءات والأرشفات من أهمية. في حين يبدو أن مخاطبة النمط الأول مضيعة للوقت، وضربٌ من النقاش العقيم مع قوى تلفظ أنفاسها اليسارية الأخيرة؛ فإن المسألة مع النمطين الآخرين تكمن في استقراء تعريف للثورات التي تشهدها مجتمعاتنا العربية، وفي تشخيص ماهيّتها، ومهمّاتها، وما الذي يحاول الشارع والمجتمع تحقيقه من خلال هذه الثورات. تميل الثورات العربية الراهنة إلى كونها مزيجاً من ثلاثة مكوّنات: استكمال مسيرة التحرر الوطني، والثورة الوطنية الديموقراطية، والثورة على نمط تقسيم العمل العالمي السائد. وقد تلاقت هذه المكوّنات وأوجدت تعبيراً لتلاقيها في أبرز شعارات هذه الثورات: الحرية، الكرامة، العدالة. لقد تمكّنت إسرائيل، عبر تبرير وجود النظم العسكرية العقائدية الاستبدادية، من إيقاف المجتمعات العربية عن مواصلة مسيرة التحرر الوطني بما تعنيه من استكمال التحرر الاجتماعي، وكبح انفتاح المجتمع المدني بما يعنيه من تفكيك للطائفية، وشلّ عمليات تطوير أجهزة الدولة وبناء مؤسسة الديموقراطية في البلاد. كما استطاع الاستبداد، بما هو علّة ومعلول إسرائيلي، فرملة بناء «ذاتٍ وطنيّة» متماسكة واستراتيجيات وبرامج إقليمية وعالمية، تحافظ على الأمن القومي، ليختزلها في «ذاتٍ سلطوية» متماسكة، واستراتيجيات وبرامج داخلية هاجسها هو المحافظة سلامة التحالف الأمني المالي المهيمن على مقدّرات البلاد والعباد. وهذا فيما النمط المعولم الجديد في «تقسيم العمل عالمياً» يرخي بظلاله القاتمة على مجتمع عربيّ شاب، حلّق عدد سكانه إلى أكثر من الضعفين على مدى العقود الثلاثة الماضية، غالبيتهم تحت سن ال24 عاماً ويعيشون في المدن، ويشكلون على مختلف مستوياتهم التعليمية جيشاً من العاطلين من العمل، المؤهلين للدخول في نزاعات وصراعات اجتماعية. ففي السياق العالمي، لا يمكن استبعاد العلاقة بين الثورات العربية من جهة وبين الأزمة الاقتصادية العالمية التي سبقتها، وحركة «احتلّوا وول ستريت» التي لحقتها؛ إلا أن عواملها محلية أساساً، وتكمن في تعامل الطغمة المالية-الأمنية الحاكمة مع الشعوب العربية على كونهم مستهلكين، لا مجتمعاً يحتاج إلى خطط تطوير اقتصادي اجتماعي، وقوى اقتصادية تحتاج إلى إطلاق مبادراتها اقتصادياً ومدنياً عبر مشاريع وتنظيمات مدنية، وآليات اقتصادية تحتاج إلى الارتقاء، بما تستتبعه من ارتقاء بالأنظمة والقوانين واللوائح والإجراءات. إنه يسار مصاب بحالة شلل جزئي. سقط منه حتى الآن جزؤه المرتبط عضوياً بالأنظمة، وسيسقط منه الممانعون، وينكفئ منه المعلّبون. ليبقى ذلك الجزء الذي كفّ، تحت وطأة الحدث الجلل، عن التنطّع إلى سدّة الريادة، فلحق بالشارع، تاركاً الساحة لقوى أكثر نشاطاً وأشدّ تأثيراً وأمهر في استخدام اللغة العاطفية. ويبقى السؤال قائماً: هل سيسترد اليسار أنفاسه قريباً؟