نبدأ من منهجية التفاؤل: هل كانت الأحداث في العالم العربي، متوقعة؟ نعم ولا. نعم، لأن هنالك نظريتين: الأولى تقول الكبت الناجم عن القمع ينتج الانفجار، والثانية تقول: إن أول عمل قام به القمع أنه مهد السبيل لكل استبداد تالٍ له. الأولى تنتمي إلى المدرسة الفرويدية فالماركسية، والثانية تنتمي إلى نفس المدرسة ولكن التابعة لويلهم رايش وهو كما بات معروفاً ينتمي إلى المدرسة الفرويدية اليسارية (مع جيزاروهايم وفروم). هنا يسقط علم الاجتماع السياسي في نظرية اللاتعين (indeterminance) ليتحول إلى حالة عدم اليقين، وهي حالة عدم القدرة على التنبؤ بمسار التطور والتغيّر، كأن يتنبأ أحدهم بحدوث حرب إسرائيلية – إيرانية، أو أن مسار الثورة المصرية الشبابية سيؤدي إلى نظام آخر غير النظام الذي ثار عليه الشباب، وهي حالة لا تتحدث عن (سكونية) سياسية واجتماعية وإنما تتحدث عن نظام عدم ضبط النتائج المترتبة على الأحداث. لهذا، فإن إسقاط هذه الحالة على النموذج السوري للحراك الداخلي يبدو شبيهاً بكل حالات انعدام اليقين التي ترافق كل حراك سياسي – اجتماعي. ولعل الحالات التي تم ذكرها ليست (اليتيمة) في السياق التاريخي، فكل الحروب لم تكن متوقعة، وكانت التعاملات معها جزءاً من أثر الانتشار أو وضع الدومينو، حيث أن نظرة الانتشار (spillover effect) تشير إلى انتقال عملية التكامل الوظيفي بين الدول من مجال إلى آخر، بافتراض تأثير عابر للحدود لأوضاع ثورية أو لاضطرابات أو لنزوع طائفي، بينما تشير نظرية الدومينو إلى أن تأثيراً خارجياً قادر على زعزعة حالة الاستقرار القائمة بين مجموعة من الكيانات المتجاورة، وهي تشترط لحدوث الدومينو التجاور والتشابه في البنى الاجتماعية ثم وجود تعزيز خارجي لقوى التدافع، وهو عامل تعطيه النظرية أهمية خاصة. بهذا، فإن أثر الانتشار والدومينو في النموذج السوري واضح للغاية لأن فرز الحالة الداخلية مشروط في حالات الاضطراب بالتشابه في البنى الاجتماعية – الكينونية من ناحية، وبتعزيز خارجي (مهما بلغت درجات قوته، سواء الإعلام أو التحريض الذي يمارسه الأشخاص وغير ذلك كثير ...) أو بالتأثير العابر للحدود. وهذا كله قد يمس نظرية المؤامرة من بعيد، لكنه يكاد أن يكون حالة نمطية لحالات لا نمطية!! تجسدها نظرية اللا تعين واللا يقين وأثر الانتشار ونظرية الدومينو مجتمعين. لكن أكثر النظريات خطورة وتجسيداً (للاخطية) القراءة العلمية للثورات والحروب والتحركات الاجتماعية هي نظرية «أثر الفراشة» (Butterfly Effect) والتي ترجع إلى نظرية إدوارد لورينتز عام 1963، وتعني أن حدثاً صغيراً قد يؤدي إلى كارثة أو حرب كمحاولة قتل ولي العهد النمسوي التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى، أو مجيء هتلر الذي أوصل الى حرب عالمية ثانية أو حادثة (البوسطة) عام 1975 التي أدت إلى الحرب اللبنانية لمدة 19 عاماً. والواقع أن نظرية أثر الفراشة تكاد أن تلغي موثوقية أي تحليل سياسي استباقي لأنه يعالج المعروف من الوقائع بالقياس على أحداث ماضية (نمطية)، فيما تشكل كل الأحداث حالات فريدة بحد ذاتها، الأمر الذي يجعل تطبيق قواعد القياس أشبه بمغامرة سرير بروكست، قاطع الطريق الذي كان يضع ضحاياه على سرير فإذا كانت أقدامهم أطول منه قطعها وإذا كانت أقصر أصر على شدها حتى تطابق السرير!! وهذه هي مشكلة أي تحليل سياسي، مطلق تحليل سياسي، أنه نمطي وله مقاييس (الماضي) وليس (الحاضر) أو (المستقبل)، وأنه خطي وستاتيكي (سكوني) يحاول أن يبسط المعقّد بصورة لا تتناسب مع طبيعته، الأمر الذي ينتهي إلى اللا تحليل أو إلى مجرد مواعظ فكرية. هنا تنتشر حالة (الريبة) التحليلية، فأنت على سبيل المثال تستطيع أن تتحدث عن سياق من الضبط اللا نمطي للأوضاع الاحتجاجية في دولة، إلا أن حدثاً صغيراً أو كبيراً يحدث أو قد يحدث قد يؤدي إما إلى انطفاء هذه الاحتجاجات أو إلى تحولها إلى اقتتال واسع أو مواجهة أو حتى حرب. وهنا أبلغ مخاطر إدارة الأزمة وتحليلها والتعقيب عليها أنه غير محكوم إلا بمتغيرات غير مرصودة أو متوقعة بل الأهم تحديداً، ومن غير الممكن الحكم سلفاً على (نتائجها). لهذا، فإن مفهوم (القلق) التحليلي يكاد أن يطابق – فعلياً – مفهوم أثر الفراشة، إنه ليس الخوف من المجهول فحسب بل التحرّز من عدم ضبط نتائج تأثيراته. واقع الحال أن حسابات علم السياسة انتقلت اليوم كما هي الحال في الفيزياء الكمومية من نظرية البحث عن الأسباب إلى البحث في (العلاقات) الناشئة عن ظهور عوامل جديدة وتفاعل عوامل قديمة بعضاً ببعض من دون الاعتماد على نموذج واحد نمطي تم الركون إليه أو معرفة آليات عمله كما تم الاعتياد عليها. وهنا، نجد أنفسنا أمام مفهوم جديد يفرض نفسه بشدة وهو سيادة (عقبة المعرفة السائدة)، فما نعتاد عليه من تحليلات ومفاهيم وأوضاع اجتماعية – سياسية سكونية سرعان ما يصطدم مع متغيرات لا تتطابق مع كل ما سبق، الأمر الذي سرعان ما يُحدث (ممانعة أو قصور ذاتياً عطالياً) لإمكانية مواكبة الأحداث، فتسير بدون وعي (مُساير) لها. والواقع أن هذا ما يُسمى بنظرية البجعة السوداء (Black Swan)، وهو مفهوم يستخدم للإشارة إلى أحداث من مميزاتها: أولاً أنها تقع خارج حدود التوقعات الطبيعية حيث لا مؤشرات لذلك، وثانياً أن حدوثها له أثر (نتيجة) شديدة التطرف، وثالثاً أن الطبيعة البشرية تألفها – بعد مقاومة لها – وتصبح قابلة للتفسير والتنبؤ بأثر رجعي (retrospective predictability). فحدوث انفجار اجتماعي – سياسي في دولة كرومانيا مثلاً كان بالنسبة لرئيسها (تشاوشيسكو) كأن تحمل أشجار الصنوبر الإجاص، وفق تعبيره، لكن (البجعة السوداء) أي التحرك الشعبي سرعان ما دمر الحكم الشيوعي خلال أقل من أسبوع، فانطلقت التحليلات لتتحدث عن مؤامرات خارجية وداخلية وعن احتمالات كانت موجودة تحت الرماد. والواقع أن الدومينو وطبيعة سيكولوجيا الجماهير (الجمعية، اللا نمطية، القطيعية ...) هي التي رسمت واقعاً غير محسوب. اللانمطية التفكير في ما ليس مفكراً به وحده الذي يمكن أن يقارب اللا نمطية واللا خطية. هو في عُرف الابستمولوجيا (القطيعة الإبستمولوجية Epistemological Rupture) وفي عُرف علم النفس والذكاء الوجداني هو التفكير خارج الصندوق (Out-of-Box Thinking)، وهو تفكير يتجنب التقليدي من التفكير والأفكار النمطية المُعتاد عليها، لكنه لا يعتبرها خاطئة إلا أنه يسمح لنفسه بالتعامل مع ما لم يتم التعامل معه أو مع ما يُعتبر مسلمات أو ما يقطع مع التفكير السائد ولا يتوقف عند القائم والمُتاح بل يتجاوز ذلك إلى التفكير اللا نمطي وإلى الاحتمالات غير المألوفة. وهذا ما يؤسس عملياً للتفكير الانبثاقي (Emerging Thinking) إلى المناهج غير (القانونية – الناموسية) إلى مناهج (المقاربة) و(الاحتمالية)، هي تنصرف عن الجزم والحكم والتنبؤ وصرامة التحليلات إلى التوقع والآفاق المفتوحة ولعب دور (محامي الشيطان) الذي يطرح ما لا يريد أحد أن يراه أو ما لا تسمح الأقنعة والنظارات المعرفية برؤيته. هذا (المنهج – اللامنهج) قد يبدو ممكناً لكنه معقد وشديد الصعوبة، ويحتاج أن يخرج الباحث من ذاته وعن نمطيات تفكيره ويصعب تطبيقه بكفاءة عالية على كل المشكلات، إلا أنه يستخدم برصانة الباحثين في القضايا المتصلة بالصراعات الدولية والإقليمية المتصلة بالدول ذات (السلاح غير التقليدي) لأن أي خطأ في حسابات (البجعة السوداء) قد تكون إيجابية لكنها قد لا تكون فقط سلبية وإنما سلبية إلا ما لا نهاية. فخطأٌ ما في حسابات القوة أو الضغط السياسي أو التحرش العسكري بدولة تمتلك أسلحة نووية أو انفراط عقدها السياسي قد يؤدي إلى حرب نووية أو إلى انتقال أسلحتها إلى عناصر إرهابية وشيوع ظاهرة التسلح النووي ولكن ليس على مستوى الدول وإنما على مستوى الجماعات، وهو الأمر ذاته – تقريباً – بخصوص تسلح بعض الدول بالأسلحة الكيمائية ما يجعل عدم الحساب الدقيق (للبجعة السوداء) أقرب إلى الجنون (الكوني). وعلى سبيل المثال، فإن عدم تقدير احتمال حالة قتل زعيم سياسي في مجتمع موزاييك مضطرب يعني التحول إلى الفوضى العارمة، خصوصاً إذا كان هذا المجتمع مجتمعاً طائفياً خصوصاً إذا كان على حافة الهاوية إثر اضطرابات مشحونة، فما الحال إذا كان كل هذا مرتبطاً بنوعية تسليح يمكن أن تؤدي إلى تدمير شامل إقليمي أو إلى انتقالات دولية لهذا التدمير عبر مجموعات صغيرة. تأتي نظرية العماه (Chaos Theory)، وتترجم خطأً بالفوضى، لتزيد في تعقيد الثورة على فهم الظواهر البشرية عندما تدخل في سياق أعمال غير نمطية، حيث أن الحالة القطيعية لكل تشكيل جمعي لا تندرج في سياق نمطي يخضع للقياس. والحقيقة أن مفهوم العماه هو الأهم لأنه يرتبط بتشكيل السلوك البشري حينما يخرج من محدداته خصوصاً عندما ينقلب على الدول كمحدد للسلوك الإنساني في إطارات تجعله نمطياً. هذه النظرية انتقلت من عالم الترموديناميات والفيزياء الكمومية إلى العلوم الاجتماعية لمحاولة المساعدة في فهم ديناميكيات النظم التي تتطور بصورة غير خطية. وهنا فإن العماه يختلف عن الفوضى (لأن الفوضى يمكن أن تنظم لاحقاً)، إلا أن العماه يضع إمكانات (لانهائية) للتوقعات تدّعي أنها تبحث عن نظام كامن!! يمكن الوصول إليه بعنصر جاذب يحدد مسار التطور، وهو العنصر الذي يمكن أن ينقل المجموعات البشرية (العماهية) إلى مسار محدد وعندما تدخلها في منظومة دولة جديدة، حيث أن السلوك العماهي يتسم بحساسية خاصة للشروط الأولية التي تكون الأكثر عقلانية في النظم المضطربة، حيث يساعد إلقاء الضوء على حدث ما في المنظومة العماهية على اكتشاف نقطة أخرى قريبة من أن تقود المنظومة إلى مسار في اتجاه آخر غير ما كانت عليه تلك المنظومة قبل العماه، وصولاً إلى النظام القابل للضبط، بمعنى أن العماه يمنع التوقع المحدد إلا أنه يمكن في نهاية المطاف تحويله من عماه إلى فوضى ثم إلى تنظيم. فالقرارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتخذ أثناء أزمة تحرك جماهيري يجب أن تتعامل مع ما يسمى نقاط التشعب (Bifurcation Points) وهنا تكون الحساسية تجاه ما يسمى حدود الانتقال من العماه إلى الفوضى دقيقة، وهنا بالذات تكون (اللحظة الفاعلة) للانتقال من العماه إلى الفوضى ثم إلى النظام أو الدخول في عماه غير قابل للضبط ومستمر بصورة لا نهائية إلى حد العبث، بمعنى آخر، فإن الانتقال إلى النظام يستدعي التقاطاً حذقاً ودقيقاً للتشعب الذي يمكن أن يقود للنظام. في حالات العماه، تأسست نظرية مضافة هي نظرية العماه الخلاق (Creative Chaos) وهي تصور بأن التشكيل الجمعي في حالته العماهية قد يؤدي إلى مآسٍ وظروف لاإنسانية للتجمعات البشرية، إلا أن المعاناة ستقود إلى تشعب يؤدي إلى نظام مهما بلغت التكاليف (إذ لا قيمة للإنسان هنا بقدر ما هو أداة للانتقال من نموذج إلى آخر)، وتدّعي هذه النظرية أن هذا النظام الجديد سيأتي بعد عقود (لا مانع مهما كانت) وسيكون هو الأفضل. وهذه النظرية فيها تصور خطي يقول إن التاريخ يقدّم الأحسن والأفضل وليس المهم التكاليف البشرية لأن العماه قد يخرج عن السيطرة لعقود طويلة، ولعل عماه أفغانستان مثال على ذلك. صراع المجتمع والدولة هنالك بالتأكيد مخاطر قائمة من لوياثان (غول) الدولة على المجتمع، لكن العماه يغوّل المجتمع على الدولة، ثم يغوّل الفرد على الاثنين، وهذا هو الخطر الأبرز في كل الظواهر العماهية وفي مآل النظرة التحليلية إليها. وإذا كانت الظواهر العماهية معقدة، فإن أي منظومة – أيضاً – معقدة وتتألف من عدد كبير من المكونات المتفاعلة إلى حد تذهب فيه نظرية (النظم الديناميكية المعقدة) إلى اعتباره أصعب من أن يتم تنظيمه أو التنبؤ به، حيث أن كل منتظم به سلوك منتظم وآخر فوضوي (قابل للتنظيم في سياق تجاوره مع ما هو منظم). والواقع أن البنى التي تنظمها دول ذات موزاييك (ديني، طائفي، عشائري ...) هي المثال الأبرز على هذا التجاوز بين النظام والفوضى، الأمر الذي يدرجها فوراً ومن دون تردد في منظومة النظم الديناميكية المعقدة، وهذا ما يدفع نحو صعوبة التنبؤ من ناحية وصعوبة الحلول وتعقيداتها من ناحية أخرى، ما يرد أي تحليل خارجي إلى موقع (الوعظ)، أو ربما الحكمة تارة جزئياً وتارة بأثر رجعي. وإذا كانت نظرية العماه والعماه الخلاق تنتمي إلى مدرسة (ما بعد الحداثة) وهي أقرب إلى البوهيمية السياسية والعبثية، فإن نظرية النظم الديناميكية أقرب إلى الحالة الوسطى بين الحداثة وما بعد الحداثة، حيث العالم نسبي والنظم متغيرة وطرق التغير لا نمطية ولا خطية لكنها أقرب إلى أن توضع في مسار. أغلب مخاطر الظواهر العماهية والتحولات في الشوارع بالمعنى العشوائي والغرائزي أن التعامل معها إما يكون بأدوات قديمة أو نمطية أو بتحليلات تنتمي إلى لغة الماضي ومنطقه، وليس على أساس أن ثمة متحولات قد حدثت خارج إطار الضبط الواقعي والمفهومي وهي أقرب إلى حالة اللا تعين الذي يحتاج إلى التفكير في ما ليس مفكراً به والتفكير الإبداعي الذي يتعامل مع بنى جديدة وتنميط مختلف للتشكيلات البشرية لتحويلها من منظومة إلى أخرى، لأن مكان البشر ليس في الشوارع وإنما في بنى المجتمع. ولإخراج هؤلاء من الشوارع فإن كل الطرق الخطية والنمطية لن تكون مواتية بأي حال من الأحوال، بل ربما قد تزيد من حجم الاضطراب الغرائزي وتفيد في تغذية راجعة (Feedback) في العماه واللايقين وتتحول إلى كرة ثلج لا ضوابط لكبرها أو لمسارها، لذلك فعلى أي تحليل أن يكون تحليلاً بينياً (Interdisciplinary) لا يلقي أحكام قيمة ولا يتوقع كالتنبؤ ولا يركن إلى فكرة نهائية. * كاتب سوري