بدأ ممثلاً للمثليين في الأدب همه تحولهم جزءاً أساسياً من الثقافة السائدة، وبات كاتباً يطمح إلى أن يكون للجميع. أغرق ألان هولنغهرست رواياته الأربع الأولى بالجنس المثلي، وأجاب بأدب طوال عقدين عن إحساسه حيال تصنيفه كاتباً محباً لجنسه. يرفض الإجابة عن السؤال الآن لأنه لم يعد يعنيه. حين أصدر « مكتبة بركة السباحة» في 1988 رفض الناشرون طبع النسخة بالغلاف الورق حتى مقابل ثلاثة آلاف جنيه. جمعت المثلية بين الكاتب وأبطاله وموضوعه، وظن الناشرون أن القراء سيقتصرون على هذه الفئة. على أن طبعة الغلاف المقوى اقتحمت، لائحة الأكثر مبيعاً وأفرحت قلب وجيب الكاتب ودور النشر. باع حقوق إصدار طبعة الغلاف الورق الأقل سعراً بمبلغ من ستة أرقام وتغيرت حياته. بات يعمل بدوام جزئي ثم كرّس نفسه كاتباً يبحث في ماضي إنكلترا المثلي وحاضرها، ويصله بتاريخها المقبول المعترف به. أغدق النقاد الكثير من أفعل التفضيل على الكاتب الخمسيني بعد صدور روايته الخامسة أخيراً. تُخلص « ابن الغريب» لقصور الطبقة العليا وأهلها، المناخ المفضّل لهولنغهرست الذي أحسّ دائماً أن للأثرياء قدرة على التصرف السيء أو التصرف السيء المسلّي الذي صوّره في « خط الجمال». يقول إن الاهتمام بالمنازل القديمة الجميلة يؤدي إلى نوع من المراعاة لأهلها، وكان هناك بيت فكتوري في كل من رواياته الثلاث الأخيرة. يخضع لعادة طاغية أخرى هي زيارة الكنيسة أينما ذهب والكتابة عنها في أعماله. يبدو كأنه يرد على النقاد في « ابن الغريب» فيعتمد للمرة الأولى شخصية نسائية متينة، ويتخفّف من وابل اللقاءات الجسدية. شخصيات الرواية التي يكتبها حالياً محبة للجنس الآخر «تقريبًا»، كأن استقرار الرغبة الجسدية قابله طموح إلى تغطية أدبية أوسع وأشمل. استعار العنوان من قصيدة « في ذكرى» التي كتبها ألفرد لورد تنيسون لصديقه آرثر هالام عن استبدال عاطفة تذوي بأخرى تنمو مع تآلف الطبيعة و»ابن الغريب». تبدأ الرواية بزيارة شاب أرستقراطي منزل رفيقه لقضاء نهاية الأسبوع. تفتن دافني، ابنة السادسة عشرة، ووالدتها المدمنة سراً على الكحول بسيسيل فالانس، زميل جورج في جامعة كمبريدج، الذي نشر شعره في ذلك السن الباكر. يكثر الفتى الوسيم من الشرب، ويسهر الليل كله ليشاهد بزوغ الفجر، ويغازل الفتاة المبهورة به. يكتب لها قصيدة طويلة في دفتر الزوار، لكنه يرغب في شقيقها في الواقع ويلتقيه في حديقة المنزل المدعو « فدانان». يذهب سيسيل إلى الحرب حيث يصطاده قناص ألماني في ماريكور، فيمجّد ونستون تشرتشل الشاعر ويفتتح أسطورته، وتتحوّل قصيدته « فدانان مباركان من الأرض الإنكليزية» مجازاً لأمة خيّرة تقاوم الشر. يذكر سيسيل فالانس بالشاعر المقاتل روبرت بروك وقصيدته «الجندي»، ويثير التساؤل حول قيمته شاعراً في مناخ مشحون قومياً وشخصياً. يدفن في كنيسة القصر، ويشيّد له تمثال يرى جورج أن يديه أصغر حجماً من يدي الشاعر، فيكشف عن معرفة حميمة. تتزوج دافني، ابنة الطبقة الوسطى، شقيقه دادلي الذي تركته الحرب ضحية حية، وتحيي ذكراه في 1926 بناء على نصيحة حماتها الملقبة «الجنرال». تدعو الأقرباء والأصدقاء ومحرّر ديوانه، ويشذ أحد الضيوف عن واجب النفاق السائد ليقول إن شهرة فالانس «مثال من الطراز الرفيع على دخول شاعر من المرتبة الثانية الوعي الجمعي بعمق يفوق وجود الفنانين الكبار فيه». في 1967 يكشف موظف مصرف انتهازي، محدود الذكاء، مولع بالقراءة، الحقيقة في ما يبدو خيانة للبعض. حين يزور بول براينت دافني تراه مهتماً ب «القذارة أساساً» ويكتشف الجميع أن فالانس كتب قصيدته الشهيرة لشاب، وأن المقاطع المفقودة منها كانت صدمت الرأي العام لو اطلع عليها. يعتمد هولنغهرست خمس محطات زمنية بين 1913 و2008 تدور الأحداث بينها، ومن الحقبة الجورجية حتى الألفية الثالثة يرصد الكاتب الهدر والنقصان في حياة الشخصيات ومقتنياتها. منزل دافني الذي منح القصيدة عنوانها يهدم تسهيلاً لبناء خط القطار. قصر آل فالانس يتحول مدرسة. حب يضيع، رسائل تختفي ويعثر عليها لتحرق أو تخبأ، لوحات كبيرة تحشر في أماكن ضيقة. إنه عمل رجل ينظر إلى خلف ويحدّق مستسلماً في الخسارة بعد روايات أربع تتطلّع إلى الإمكانات بعين كاتب أكثر شباباً. اهتم هولنغهرست بالأسرار في «ابن الغريب» ورغب في أن يشاركه القارئ الإحساس بأننا لا نعرف الكثير بالضرورة عن الناس القريبين منا، ونعجز عن ذلك. يوثّق الأحداث بيوميات ورسائل ومقتطفات من مذكرات منشورة، ويركب الرواية من مشهد يسبق الحرب العالمية الأولى وينظر إليه من منعطفات زمنية عدة تبتعد من الماضي لتركز على الحاضر. شاء هولنغهرست ( 57 سنة) كتابه رواية عن الحرب من دون حرب، واتسع العمل حين أضاف السيرة الأدبية وارتباطها بالصناعة والزيف وجو جمعي وشخصي معين. يرى «ابن الغريب» بداية مرحلة جديدة، ويحس أن «خط الجمال» التي نالت بوكر في 2004 كان ختام ما حسبه « بأبهة» تركيباً سمفونياً من أربع حركات ضم «مكتبة بركة السباحة» و»النجمة المطوية» و»السحر». يكتب ببطء يزداد مع تقدمه في السن، وتصعب الكتابة باطراد خلافاً لتوقعه. شاء كتابة قصص قصيرة لكنه كتب واحدة فقط قبل أن تتبلور فكرة الرواية. يصغي إلى فاغنر ويكتب ملاحظاته أولاً، ولا يبدأ الكتابة إلا حين يملك حساً واضحاً بالعمل كله. يشعر بالكآبة عندما ينهي رواية ويودّع المكان الذي استقر فيه معها، لكنه نفد منها هذه المرة لتأخره عامين عن الموعد وحاجته إلى المال. أحد أكثر الروائيين «أدبية» كبطله هنري جيمس الذي بدا تأثيره واضحاً في «خط الجمال»، وفي روايته «ابن الغريب» تحية لفورستر وإفلين وو ورونالد فيربانك الذي يرى هولنغهرست أنه لم ينل حقه من التقدير والشهرة. درس في أكسفورد وتناول في أطروحة الماسترز ثلاثة كتاب مثليين هم فورستر وفيربانك وهارتلي في زمن امتنعت الكتابة الصريحة عن المثلية. علّم في أكسفورد ثم قصد العاصمة التي أدرك حين حطّ فيها أنها المكان الذي يريد العيش فيه. بدأ شاعراً نال ديوانه الأول في 1981 « دردشات سريّة مع فتيان» إعجاب النقاد، ويقول عارفوه إنه عاش أربعينياً في عشريناته، وعشرينياً في أربعيناته. توسّعت باكورته «مكتبة بركة السباحة» في 1988 ماضي لندن المثلي قبل السماح قانونياً بعلاقات الجنس الواحد في 1967 وبعده. بطلها وليم بكويث في الخامسة والعشرين يعتبر أن كل يوم يمضي من دون شريك جديد يذهب هدراً. اقترحت مارغريت ثاتشر في تلك الفترة منع الترويج للمثلية عبر المؤسسات الرسمية، فشاع أن روايته ستمنع وازداد الإقبال عليها. لم يكن أحد كتب رواية مفصّلة عن حياة مثليي إنكلترا « وكنت أعي تماماً أنني أكتب عن موضوع جديد رائع». انتظر حتى الرواية الرابعة لينتقم من ثاتشر. يرقص بطل «خط الجمال» نك غست معها في حفلة ويأسرها بوسامته وشبابه. «كان يمكنني الحصول عليها لو أردت» يقول لصديق وهو مبهور بسهولة الاقتراب من السلطة. فصّلت « النجمة المطوية» في 1994 علاقة رجل متوسط العمر بفتى وسيم، ورصدت «السحر» في 1998 انبهار موظف حكومي ثلاثيني بحياة لندن الليلية والشبان ومخدر إكستاسي. بدأت «خط الجمال» حيث انتهت « مكتبة بركة السباحة» ودرس بطلها نك غست في أكسفورد وكتب أطروحة عن روائي مثلي كهولنغهرست. في أدبه الكثير من حياته بما في ذلك الولع بالهندسة التي لفتته مذ أرسل والداه طفلهما الوحيد إلى مدرستين داخليتين. كان أحد المبنيين الجميلين يعقوبياً صمّمه تشارلز باري الذي كان مهندس البرلمان والآخر فكتورياً. يصف بالتفصيل في «ابن الغريب» منزل أسرة سول «فدانان» وقصر عائلة فالانس «كورلي كورت»، لكنه لا يحصر نفسه بالطبقة العليا، بل يكتب بالمتانة والاستبطان نفسيهما عن الطبقة السفلى، وينتقل برشاقة سهلة بين علامات الثقافة الرفيعة والانصياع المشين للغرائز. كان صدور «ابن الغريب» مناسبة لكي يرفع النقاد قبعاتهم للكاتب الطموح، الجمالي، الرفيع الأسلوب الذي قد يكون أفضل كتاب إنكلترا اليوم. ليس أفعل التفضيل تماماً، لكنه أكثر التعابير تطرفاً للإنكليز المتحفظين.