للشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كفافي.. قصيدة شهيرة بعنوان: «بانتظار البرابرة».. يقول في خاتمتها: - «ما الذي ننتظره مجتمعين في ساحة السوق..!! البرابرة سوف يصلون اليوم. ولم هذا الضيق المفاجئ، وهذا الاضطراب، لماذا أصبحت وجوه الناس عابسة.. لماذا أخذت الشوارع والساحات تخلو سريعاً.. والكل يعود لبيته غارقاً في التفكير..؟! - لأن الليل حل ولم يأت البرابرة.. ولأن العديد من الرجال القادمين من الحدود قالوا أنه لا يوجد برابرة بعد الآن..!! والآن..!! ماذا سيحل بنا بدون برابرة.. لقد كان قدومهم نوعاً من الحل..!!». يمكن تخيل كفافي وهو يكتب مثل هذه القصيدة في حديقة فندق «سيسيل» في مدينة الاسكندرية التي عاش فيها.. سيبدو الأمر كما لو أن الشاعر اليوناني المهاجر.. يقف مطلاً على «البحر المتوسط» مستعيداً كل تاريخ المدينة العريقة والغزوات التي تعرضت لها وكان آخرها «الحملة الفرنسية» الشهيرة و«نابليون بونابرت» والموقف منها بين دعاة «التنوير» ورافضيها جملة وتفصيلاً. كان كفافي هناك.. حين كانت المدينة العريقة تموج بمختلف الأقوام والديانات.. يونان.. طليان.. انجليز.. مسلمون.. نصارى.. يهود.. وبين كل الحالمين يضعه الكاتب أي.ام. مورستر.. الذي عاش في اسكندرية وألَّف عنها كتاباً بالقول: - «السيد اليوناني ذي القبعة القشية، الذي يقف بلا حراك أبداً عند زاوية منحرفة قليلاً عن الكون..!!». وقبل ذاك كان الروائي الانجليزي الكبير لورنس داريل قد كرس «الشاعر العجوز» كأحد أبطال روايته الشهيرة «رباعية الاسكندرية».. وقد أدى ذلك لإخراج الشاعر الكبير عن عزلته.. حيث إنه لم يكن معروفاً إلا على نطاق دائرة ضيقة من المتذوقين والنقاد.. غير أنه - بصورة عامة - لم يشتهر إلا بعد وفاته. وفي هذا الاتجاه نجد أن أهم ملامح إعادة اكتشاف كفافيس جاءت عن طريق الناقد بيتربيين رئيس رابطة الدراسات اليونانية الحديثة «1983».. الذي كشف الكثير من الجوانب الخفية في حياة الشاعر.. والتي تتجلى من خلال قوله: - «الكثير من قصائد كفافي مغطاة بقناع يجعلها مناسبة لطلاب المدارس.. رغم أنها في حقيقتها شائنة سراً وعلانية عندما تفسرها بشكل جيد.. لأنها تنكسر وتستهزئ وتتجاهل الدعائم الثلاث التي يقوم عليها المجتمع البرجوازي المحترم وهي «الأيمان» و«حب الوطن» و«حب الجنس الآخر».. وهي دعائم غالى المجتمع اليوناني - الذي جاء منه - في تقديسها.. وعبر عن الرغبة في إشباع «الرغبات الملتوية» في قصائد مثل قصيدة «نادر جداً» التي تصور شيخاً «متعباً ومحنياً»، لكنه يظل محتفظاً بنصيب من الشباب، حيث إن «الشباب يحفظون قصائده بعقولهم الشهوانية». وأجسامهم اليونانية الرشيقة «تثار لما يكشفه من جمال»..!! ويوضح بيتربيين ما يريد الذهاب إليه بالقول: «من السهل أن نرى كيف أمكن للمدرسين تحوير هذه السطور التي تتكلم عن تحقيق الرغبات إلى قصيدة بريئة تصور عدم قابلية الفن للفساد، فوجدوا فيها رقة في المشاعر متغاضين عما فيها من دلالات «أخرى» إضيفت بأسلوب شاعري رقيق». يضيف بيتربيين: - «أن شقيقة كفافي منعت ابنتها - عام 1962 - من قراءة قصائد «الخال قسطنطين».... أنه بحق رجل ذو وقفة مائلة قليلاً عن الكون، أصبحت مع ذلك مفهومه عندما نتعرف على حياته وتكوينه النفسي والاجتماعي وظروفه الاقتصادية». أما كفافي نفسه فقد قال عن شعره: - «إن قصائدي هي ذاتي، وحتى تقرأ كما يجب، عليكم معرفة كل شيء عني، وما يتعلق بحياتي في الاسكندرية وأسلافي الارستقراطيين ومجد مدينتي وانهيارها.. والأشياء التي تثير اهتمامي كالسلالات الراحلة في سوريا وبيزنطة». ومن المعروف أن كفافي وصل الاسكندرية وهو في سن الأربعين.. وعاش فيها الثلاثين عام التالية من حياته.. وفي مجتمع اسكندرية بمختلف مهاجرية لم يكن مشهوراً كشاعر بقدر ما كانت شهرته مستمدة من «غرابة تصرفاته» وقدرته غير عادية ك«متحدث» يجمع حوله أعداداً كبيرة من الشبان الذين يلتقي بهم في أحد المقاهي بانتظام. ومن أقرب الصور الشعرية التي كتبها وتشبه إلى حد بعيد وصف لورنس داريل له.. قوله: - «يصمم كل فترة على بدء حياة أفضل، لكن عندما يأتي الليل بأجوائه الخاصة، بمصالحاته ووعوده «....». عندها.. ضائع يذهب إلى لذته المميتة ذاتها»..!!