فيلم (atonement ) عن رواية الكاتب الإنجليزي المتميز إيان ماكيوان (Ian McEwan )، الروائي الاستثناء في الروائيين بإنجلترا، إذ يُعَدُّ تياراً بحَدِّ ذاته، تَرَشَّحَ أربع مرات لجائزة بوكر للرواية، وربحها عام 1998على روايته (امستردام) . وحطم في روايته الأخيرة (On Chesil Beach) حاجزَ المائة ألف نسخة في المبيعات الأولية، أما روايته الثانية (راحة الغرباء The Comfort of Strangers ) الصادرة عام 1981، فلقد اُقتبستء للسينما عام 1991، تَبَنَّاها هارولد بنتر و من إخراج بول شريدر، المعروف بعينه الخبيرة في النفاذ للجنون العادي، وتحكي عن صديقين إنجليزيين شابين يقضيان إجازتهما في فينسيا حيث يلتقيهما دليلٌ سياحي يُفءرِط في تدليلهما ثم ينتهي بذبح البطل في أجواء أسطورية . ماكوين معروف بمرونته في تطويع نصوصه للسينما و المسرح .. كما حصل في نهاية روايته (Enduring Love ) إذ سمح بأن تتحَوَّر النهاية تماماً لتُناسب رؤية المُخءرِج . أما روايته الثامنة (atonement )، التي هي موضوعنا اليوم، فلقد صدرت عام 2001وساهمت في ذيوع شهرته في الولاياتالمتحدة الأميركية، و تَمَّ نقلها للسينما على يد كاتب السيناريو كريستوفر هامبتون Christopher Hampton و المُخءرِج جو رايت Joe Wright . ماكيوان كما يُعَرَّفه النقادُ : (موهوب في كتابته لحبكاتٍ مُذهلة عن الحُبِّ و العنف، لديه أفكار عميقة ويده ملطخة بطين الحياة ... يَتَكَرَّر في عمله الظهور المباغت للشَرِّ و الألم والموت .. وغالباً ما تقع أشياء مريعة ماكان يجب أن تحدث في حياةِ أُناسٍ برجوازيين صامدين لا يتوقعون حدوثها .. يموت أبرياء، و ما أن تدور الحبكة حتى لا تذر شيئا على حاله .. هناك دينامية تستحوذ على قارئه كما استحوذت على جمهور السينما). و هذا ما نقله الفيلم (أتونمنت) بفنية عالية ربما تشكل إضافة للرواية، إذ تتم النقلة من بديع الحياة الإنجليزية المُرَفَّهة لعشوائية الحرب القاتمة، تنكسر الرفاهة في الفيلم على يد شخصية الطفلة (بروني) التي يتضح في نهاية الفيلم أنها هي الكاتبة للحكايةَ التي تُروى على لسانها العلاقة العاصفة و الخاطفة بين شقيقتها سيسيل المُرَفَّهة وروبي تيرنر ابن الطبقة العاملة الذي يدين لوالدها في تعليمه . ينكسر السلام ولا ينكسر الحب والجمال، لتأتي مَشَاهِد الحرب كلوحاتٍ غارقة في الوحشية وفي نفس الوقت مُرءهَفَة الحساسية، كما في مَشءهَد انتظار الجنود البريطانيين لإخلائهم من شواطيء النورماندي، يتكدسون بجروحهم في الملاجيء والخنادق والمجاري، وتحت القصف يُسابق الموتُ عليهم المَرَاكبَ التي تظهر ببطء لحمل الآلاف .. بينما تُخَلِّف للموت الآلاف . رائحةُ البحر تستدعي البطل لهذا الجحيم، يهرع ليجد نفسه على الشاطيء بين الجثث والجرحى والقادة المتعنتين الذين يفتخرون بأنهم لا يُجءلون جريحاً، ويتركون الجرحى وراءهم لحتفهم . يتحرَّك روبي المهزوم (والمسكون بكلمات لا يَتَوَصَّل لصياغتها لحبيبته) بين أناشيد الجنود المُلَوَّعين للرجعة لبلادهم و للسلام، وخلفهم واجهات لمبانٍ وقصرٍ فارغ مُلاصقة لعجلة ملاهٍ ضخمة (كوراسيل) تركبها أشباحُ جنودٍ وتظهر تدور بتثاقل لا نهائي في خط الأفق وبين سحب الدخان والموت، وتخترقها كلابٌ مفجوعة تعوي . على غير هدى يتخبَّط روبي بانتظار الجلاء مُحَوَّطاً بالأشباح سواء من ماضيه في الخلفية أم في مَشَاهِدَ غير مُتَوَقَّعَة سينمائية لا نعرف أتظهر في مخيلته أم في شاشةٍ تنتظره بقبو يلجه بحثاً عن قطرات ماءٍ للشرب مقطوعة في ذلك الجحيم، وحين يبلغ هذيانه غايته تلتقيه أمه الميتة بماءٍ لتغسل عن قدميه التعب وتلك الحاجة للرجعة للحبيبة المستحيلة، وتهيئه لموتته حيث وَسَّدَه رفيقه في ملجأ تحت الأرض والأنقاض . يَتَوَّج المَشَاهِد الجمالية موتُ البطلة في انفجار ماءٍ في الأنفاق، و طفوها مثل ورقة مبسوطة أو مثل دميةٍ لاهية محبوسة في مكعب الماء . وما بين الميتتين مَشَاهِد (في زمننا الحاضر) للقاءٍ يُجريه صحافي مع كاتبة الرواية التي تقدم بها العمر (بروني) التي تعترف بأن هذه هي روايتها الأخيرة، رواية أشبه بوقفةٍ للاعتراف أمام الموت الزاحف على دماغها، تعترف بدورها في تراجيديا شقيقتها، و الحرب التي خاضتها منهمكة في مباشرة الجروح والموت ومهام التطوُّع الشاقة تكد لتغسل ضميرها بلا فائدة فتلجأ لكتابة القصة، كتكفيرٍ، كبيتِ أحلامٍ على شاطيء تبنيه لتتمة حكاية حب سَبَقَ و أعاقت تَدفقها وتسبَّبتء في قطع تيارها، ولتمنح أختها (سيسيل) ما سَلَبَتءها إياه، كما جاء على لسانها في الحوار الصحافي في خاتمة الفيلم : (في روايتي منحتُ سيسيل وروبي الوقت الذي تاقا إليه معاً، الوقت الذي يستحقانه)، هو الوقت أو الحياة الأخرى (الأكمل) و الذي تمنحنا إياها الكتابة . ممثل الشخصية الرئيسية (James McAvoy ) جيمس ماكافوي، الذي اشتهر فجأة وخضع لنقلة نوعية في حضوره كممثل حين قام بدور البطولة في فيلم آخر ملوك اسكتلندا (عن حياة عيدي أمين ) مُمَثِّلاً دورَ الطبيب الساذج التائه بأفريقيا، والذي حصل به على جائزة أوسكار (أفضل مُمَثِّل مُسَاعِد) . يقول ماكافوي بأنه لم يخطر له قط العمل بالتمثيل حتى زار مدرستَه المُخءرِج و المُمَثِّل (دافيد هيمان) محاضراً عن الدراما، ومنح جيمس دوراً في فيلمه (الغرفة القريبة) . بعدها عَمَلَ لمدة عامين كخَبَّازٍ مُتَدَرِّب في سوبرماركت قبل أن يُقرِّر الالتحاق بالأكاديمية الاسكتلندية للموسيقى والدراما . في أحد حواراته الصحافية قال: "أن اللهجة التي يتبناها المُمَثِّل أحياناً في أدواره تجعله يفقد صوته الأصلي.. بينما الصوت وسيلة تواصل حيوية . أنا اجتهدتُ في محاولةٍ لأكون الإنسان الكامل الذي يُمَثِّل البطلَ روبي تيرنر .. والذي يَتَحَوَّل في النصف الثاني من الفيلم لشخصيةٍ مُحَطَّمَة انتحارية حزينة مجروحة ... والغريب أنه قد صار أسهل عليَّ تمثيله مما في أول الفيلم حين كان نموذجاً للرجل المستقيم الكامل .. لقد دفعتُ بكتفيِّ للوراء، وتركتُ قلبَ روبي تيرنر يبرز للأمام خلال النصف الأول من الفيلم لأقول أنه إنسان منفتح على العالم وعلى الجِرَاح .. لذلك فلقد تدمر .. بينما أطبقتُ كتفيه على صدره في النصف الثاني حين صار أقل حساسية و أكثر أنانية . تشعر بالطاقة المتدفقة في جسد البطل، طاقة كامنة تُحَرِّك كامل الفيلم . روبي منفتح لدرجةٍ قَتَلَتءه .. قال لي مرة الممثل الكبير سايمون ماكبيرني: (كل طموحي أن أنفتح ..) يومها أذهلني أن يكون هذا طموح رجل مثله، أو أن يكون (الانفتاح) في قائمة الطموحات .. انتابني أنه طموح مُذهل ! هذا صار هدفي .. وفي هذا الفيلم تَعَلَّمتُ أنه طموحٌ قاتل ! و مع ذلك يبقى طموحاً نبيلاً . الفن هو عن التواصل، و أنا أبكي كثيراً في أدواري ..