لا شك في أن المعرض الراهن بمثابة استمرار للمعرض الاستعادي الأكبر الذي أقامه منذ أشهر القصر الكبير بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة عبقري النحت في فرنسا أوغست رودان، هو المتوفى عام 1917 والمولود عام 1840. يبدو المعرض الجديد: «رودان والرقص» أشد إثارة من سابقه، يتميّز بتعرضه لما تجنبه سواه حتى الآن على رغم أنه الينبوع الأساسي لاستثنائية نحته. هو الذي ظلّ مضمراً منذ أكثر من مئة عام. تثبت شواهد المعرض أنه كان لسنواته الأخيرة ينهل بشبق مخبريّ وثقافيّ عارفٍ من ميدان خفي عن النقاد والمؤرخين، كما تكشف المعروضات التي يتجاوز عددها الخمسين بين منحوتة جصيّة أو رخاميّة مباشرة ورسوم مائية يقتنص من خلالها أسراراً تفصيلية عن الحركة الجسديّة بخاصة الأنثوية الراقصة. أقول تكشف خبرة نخبوية متراكمة تعددية لأنها تحتاج إلى تدريب طويل في تشريح حركة الجسد، ومعرفة رهيفة بالموسيقى الإيقاعية أكثر من اللحنيّة وتدرب مدهش على الرقص الآسيوي بخاصة الكمبودي لعلاقته المعرفية عن قرب ببعض راقصاته اللواتي قدّمن عروضهن في مسارح المعرض العالمي الشمولي عام 1890. يعلق عندما ودّعهم « بأنهنّ حملن جمال العالم معهنّ» تتمدد تأثراته وإطلاعاته بعد ذلك لتشمل الرقص الهندي الأنثوي في المعابد. ورمزهنّ الحكيم شيفا المتعدد الأيدي والصفات. لكن شغفه العريق برقص «الباليه» يسبق هذه المراحل المتأخرة. باريس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين كانت صاخبة بعروض الفرقة الروسية «دياغيليف» وراقصاتها المشهورات شهرة ملحن الفرقة أيغور إسترافنسكي، وشغف رودان بهنّ كان يشاركه فيه إدغار ديغا المختصّ بكواليسهنّ، وهنري تولوز لوتريك المختصّ بمكياجهنّ وتبرجاتهنّ الصريحة اللون وفان دونجين وأندريه ديران وماتيس وحتى بيكاسو والقائمة تطول! أما رودان فقد كان مختصّاً بنحت حركاتهم التعبيرية الراقصة. استلهم من منحوتاته الراقص الأكبر موريس بيجار في لوزان. مستعيراً منه مقاومة الجسد للجاذبية الأرضية، يبتدىء مثله بسينوغرافية أو بنحت حركيّة الجسد وتهالكه في فراغ مجنّح وينتهي مثله إلى موسقة هذه الهيجانات الحسيّة المأزومة، وتحويلها إلى رقص عائم متحرر مثل طيور المولوية من فلك الثقالة الأرضيّة، والاتحاد بحركة الوجود الأكبر: الكون الفلكي المرصّع بالمجرّات والكواكب. لا نعثر في منحوتات ورسوم رودان على عمود جسدي مثل تراث النحت الإغريقي المتوازن بنسبه الذهبية السكونية، حتى تمثال «المشّاء» الشبه إغريقي المقطوع الرأس يسعى بخطوات مائلة وخطوط متكسّرة ترسم زوايا متحررة من الشاقول. تعلّم رودان من جماعته التي ينتسب إليها نقديّاً: «الانطباعيّة» ديمومة الحركة في الوجود الخاصة بالجسد العاري المغلف بانعكاسات متلألئة برفيف متذبذب الضباب، غمامي هلامي سديمي لأنه لا يعرف معنى للاستقرار، فهو (بخاصة في رسومه المائية) يتخلّق من ذاته، في تطور حركي دؤوب فيتحول من حال إلى حال ضمن صيرورة لا تعرف التكرار مثل الموجة والسحابة والبخار. كأن يطلب من نماذجه البشرية الحية العارية (الموديلات في محترف مودون) أن يتحركوا كما يشاؤون، ثم يقتنص واحدة من أشد هذه الحركات تشنجاً وتعبيرياً راقصاً. إذا كان قدر النحت هو الجسد البشري فإن تعريته من الألبسة برأيه ضرورة أشبه بحركة الشهيق والزفير. فالفن كفيل بإكساء عريّه ببعد ميتافيزيقي، ولبوس روحي جديد يملك ذاكرة جسد النحت أكثر من نحت الجسد. تعلّم رودان من الرقص حالات من التقمص الروحي المجرّد عن إمكانية الحدوث في الواقع. ولكنّها حتمية الحدوث المتجذّر في تلافيف ذاكرة النحت فإذا كان النحت بداهة هو فن مادته الجسد البشري فالرقص كذلك. نلامس هنا الرسالة التي يتوخّاها المعرض، بإشاعة هذا الاكتشاف التوأمي ولو بطريقة متأخرة نقدياً. لكن رودان كان على وعي كامل بأن استلهامه من ألوهية الرقص قادت إلى احتكاره العديد من تبشيرات النحت المعاصر. استحوذ على ميراثها بعد وفاته كل من سيزار وبرانكوزي وسواهما. تثبت رسومه ومنحوتاته المباشرة التي تقتنص الحركة بسرعة وجودية انتحارية مارقة أن رودان مثله مثل الموسيقي كلود دوبوسي والروائي مارسيل بروست أشد حداثة من محدثي اليوم. لامس المعرض الاستعادي السابق قوّة شخصية هذا العبقري والتي تتفوق على نظيره في عصر النهضة ميغيل آنجلو، فقد استطاع أن يروّض جسد تلميذته وعشيقته النحاتة كامي كلوديل بما لم يصل إليه أي انطباعي من تراجيدية التمفصل الانفجاري كما استطاع أن يعري أقوى الشخصيات الأدبية قبل أن ينحتها من مثال أميل زولا وفيكتور هيغو (خلال أكثر من ثلاثة أشهر) باحثاً عن الشبه الداخلي وجوهر الشكل بمعزل عن أقنعته ونفاقات الأردية المفتعلة، منحته منذ تمثال المفكر وبوابة الجحيم أن يقدّس الجسد من الناحية البلاغية التعبيرية. لكن المعرض الراهن على اختزال أدواته ووسائطه التعبيرية يعرّي ما هو أشد هيكلية من الجسد، على مثال الرغبة في التحليق في فضاء واسع، أو الرغبة في انتحال طقوس عدميّة أقل التصاقاً بالأرض والمادة. والمعرض يستمر حتى تموز (يوليو).