تعددت معارض إدغار ديغا في بحر السنوات الأخيرة، غير أن معرضه الراهن في متحف أورسي الباريسي أشد إثارة من كل ما سبقه، بخاصة أنه يقتنص فرصة إحياء الذكرى المئوية على وفاته مع تحية بقلم صديقه الحميم الشاعر والمفكر بول فاليري (1871-1945). كان فاليري يكرر في أكثر من مناسبة: «ديغا- الرقص- الرسم» فأصبح عنوان المعرض الراهن المختص بالذات بتحولات خطوط رسم راقصات الباليه خلال تدريبات كواليس دار الأوبرا الباريسية. تجمعهما صداقة إنسانية وفكرية تتجاوز عشرين عاماً وعلى رغم أن ديغا فضّل دوماً الانصراف إلى لوحته المضنية وندرة الأصدقاء، فقد كان يتمسّك بالسهر مع بول فاليري كل أسبوع مساء الخميس لدى جامع اللوحات هنري روار (المختص بإدغار ديغا أولاً ثم بكورو ومييي ومانيه والغريكو ثانياً). يعانق المعرض رسالة خطية كتبت بيد إدغار ديغا ومرسلة إلى بول فاليري فيها: «عزيزي- ننتظرك غداً في الساعة السابعة والنصف بلهفة، وكالعادة سيكون هناك بعض اللحوم بالطبع ديغا». يشتمل المعرض- وهنا تكمن أهميته- على ما هو أشد توثيقاً من الرسالة المذكورة، أي عرض صفحات كتاب مجهول تماماً، كتبه بول فاليري عن آلية أداء العبقري إدغار ديغا في تراكم وبناء وتعديل خطوط رسم راقصات الباليه وبمستوى نقدي تشكيلي نادر في عالم الأدب (نستحضر في هذا المجال ارتباك رأي إميل زولا اتجاه الرائد بول سيزان). عنوان الكتاب الذي حرر قبل 1938، تاريخ أول طبعاته (دار غاليمار) هو عنوان المعرض الراهن: «ديغا- الرقص- الرسم». نشره في حينها تاجر اللوحات الانطباعية المعروف برهانه الثقافي وهو أمبرواز فولار، اقتصرت هذه الطبعة على غلاف باللونين الأحمر والأسود والنص التحليلي من دون رسوم، ثم أعيد طبعه عام 1965 مع 26 محفورة منقولة عن أبرز لوحات الباليه لديغا، وذلك ضمن سلسلة مختارة بعناية تدعى «أيدي- آرت» بالفرنسية من ضمنها كتاب أندريه مالرو «المتحف الخيالي» و «التصوير والمجتمع» لبيير فرانكاستيل. يؤكد نص الكتاب أن التطور التشكيلي الانفجاري في القرن العشرين ليس معزولاً عن تطور الذائقة الفنية لدى الأدباء، هم الذين تعرفوا على المفاهيم الحداثية في الفراغ واللون والخط. يحيل بول فاليري جوهر نصه الجمالي إلى تأكيد إدغار ديغا في أكثر من مناسبة أن «اللوحة ما هي إلا نتيجة للتحولات المتراكمة في رسم الخطوط». يذكر المؤلف أن ديغا في حالة ذهول دائمة وغيبوبة تصوفية بسبب انصرافه كليّاً إلى الرسم والتصوير طوال النهار مما يبرر جنونه في المساء وعربدته بمرح عبثي كنوع من إنعاش ذهنه المتعب، بخاصة أنه يرفض السهولة في الرسم. تبدو موهبته فيه أقرب إلى رسوم العباقرة الكلاسيكيين مثل آنغر ومعرفته في التشريح البشري المتحرك لا تقل عن ليوناردو دفنشي. يدرك فاليري أن هذه العناية الموهوبة في تحولات الرسم وتخلّقه، وتراكم تطوراته لا تخفي عصيانه لمجموعة الانطباعيين، وذلك برفضه التصوير في الهواء الطلق، وإنما لملمة الحركة التفصيلية للراقصات (بما فيه ممارسته للتصوير الفوتوغرافي) قبل إنجاز التكوين التوليفي العام والنهائي في المحترف، بعيداً من توهج نور الشمس، لذلك فقد تخصص المعرض مثل نص فاليري بمراحله الأخيرة المختصة بالتصوير والنحت والفوتوغراف والحفر والرسم بالباستيل، وعنايته بالأرض والأنوار الصناعية في كواليس التدريب على رقص الباليه، ناهيك عن ضعف بصره المتدرج حتى فقده نهائياً واستبدل البصر بحاسة اللمس فأنتج في نهاية حياته ما يقرب من مئة وخمسين منحوتة عن أجساد شابات الرقص المتحركة، من أشهرها تمثال «راقصة الباليه ذات ال14 سنة». ثم العناية بعلاقة أقدام الراقصات وأحذيتهن بالأرض مع أديم الجاذبية الأرضية، يبدو تشريحها أشد امتداداً من أجل ضمان توازن الفتيات عند الرقص. لعل أبدع ما وصفه فاليري هو التدرّج في الرسم والمراجعة المتتالية من دون الوصول إلى قرار تشريحي حاسم لأن ألوانه من أقلام الباستيل كفيلة باصطناع الرفيف الضوئي أكثر من التحديد التكعيبي للكتلة كما كان يفعل معاصره بول سيزان. أما تأثير القطوع الفوتوغرافية فكانت صريحة في تكويناته المقطوعة من أحد أطراف الفراغ، مع الخط المحوري المائل. يبدو الاحتفاء بالذكرى المئوية لعبقرية إدغار ديغا مناسبة مزدوجة تشمل الاثنين بسبب مركزية كتاب بول فاليري في المعرض وإعادته إلى مساحة الضوء النقدي المرهف تشكيلياً ضمن حساسيته الشعرية، بعد أن كان مجهولاً بصيغة شبه مطلقة.