لقّب ب «رسّام الراقصات» وقال في شيخوخته إنهن كن مجرد ذريعة لرسم القماش الجميل والحركة الراهنة. معرض «ديغا والباليه: تصوير الحركة» يستمر حتى الحادي عشر من كانون الأول (ديسمبر) ويتجاوز حيوية الجسد إلى الخفة وانعدام الجاذبية، ويهجس بكل حركة تقود إليها. في المعرض خمس وثمانون لوحة ورسمة ومنحوتة تشهد على راديكالية الفنان الذي راقب الراقصات وراء الكواليس وعلى الخشبة، وأنجز مئات الرسوم ليلتقط الجسد في اندفاعته الأنيقة ودورانه الرهيف. ولد إدغار ديغا (1834 - 1917) لأب مصرفي ميسور في باريس التي شهدت حينها تغيراً مضطرداً في العمران والفن. بات أحد أبرز الانطباعيين وعني مثلهم بالحياة المعاصرة، لكنه ركّز على الجسد خلافاً لزملائه، ورسمه بدقة كلاسيكية تأثراً بإنغريه. استفاد، بعد تردّد، من التصوير الفوتوغرافي لابتكار تقنيات جديدة جريئة تثبت الحركة، والأرجح أنه اطّلع على الاختبارات الجديدة في التصوير لدى الفرنسي جول - إتيان ماري والبريطاني إدويرد مايبريدج اللذين صوّرا حركة الإنسان والخيول في لقطات متتابعة اتفقت مع اهتمامه بتفكيك حركة راقصاته. في عقده السادس اشترى كاميرا والتقط صوراً استعان بها في تحقيق لوحاته الرائدة. شكّل الباليه نصف تركته، وحين زاره الكاتب إدمون دو غونكورفي 1874 أدّى له حركة راقصة وهو يتحدّث عن فنه. «وقف على طرف إصبع قدمه، والتقت ذراعاه في دائرة لتمتزج جماليّتا الفنان ومعلّم الباليه». أوبرا باريس ارتاد ديغا أوبرا باريس حيث قدّمت عروض الباليه، وأثار اهتمامه بالراقصات الشك في وقت أتت هؤلاء من عائلات فقيرة وارتبطن بعلاقات مع أنصار هذا الفن الأثرياء. أمضى وقتاً طويلاً خلف الكواليس، وراقب الراقصات يتدرّبن ويكرّرن ويتعبن ويثابرن ويهبطن على المقاعد بأجساد منهكة. في «التمرين الأخير» من 1874 يزاوج السكون والحركة، فيصوّر راقصة تهبط الدرج اللولبي إلى اليسار، وأخريات يتدربن في الوسط بإشراف المعلّم الشهير جول بيرو الذي رسمه استناداً إلى صورة، وإلى اليمين راقصة ترتاح على المقعد وأخرى تقف لتصلح مساعدة هيئة ثيابها. لا يهتم بأناقة المشهد، إذ يقطعه الدرج الذي يبدو أخرق لكنه يضيف إلى الحركة فيه، فيما يكتفي الفنان بنصف الفتاة إلى اليمين من دون أن يهتم بكمال العمل فعلاً وجمالاً. شغلته الواقعية وفضّل رسم الموضوع في مكان العمل، واختار الجرأة في تركيب المشهد والنزاهة في رصد عالمه. في «درس الرقص» بعد أربعة أعوام تتوزّع تسع راقصات، جالسات وواقفات، على زاويتي اللوحة ووسطها، ويؤدين كل الحركات الممكنة ما عدا الرقص. يرسم ديغا كل فتاة من منظور مختلف، لكن الجميع يبدون متفقات ضمناً على الانحناء إما تعباً أو لترتيب الثوب غالباً. تقلّ الأعمال التي تصلح لغطاء علبة الشوكولا، ولئن بدت «راقصتان على المسرح» من 1874 مرشّحة لذلك فإن ذلك لا ينتقص من قدرتها على مخاطبة المشاهد الذي يتكثّف شعوره بالضوء المتوهج الشفاف وخفة إحدى الراقصتين التي تبدو على وشك التحليق. رسم الحركة المتدرّجة لذراع راقصة أو قدمها على أوراق عدة قبل أن يعتمد أحد الأوضاع في اللوحة أو الرسم. «ثلاث راقصات في تنورة بنفسجية» من 1895 تصوّر ثلاث فتيات بخمس أذرع مرتفعة، ويسهل الاعتقاد أنهن راقصة واحدة في الواقع تؤدي حركات ثلاث تبلغ ذروتها بالتقاء الذراعين. لاحق تقدّم الحركة في النحت أيضاً، وحقّق ثلاث منحوتات لراقصة تقف على رجليها. أثارت أشهر منحوتاته «الراقصة الصغيرة ابنة الرابعة عشرة» الجدل بجمعها البراءة والتحدي. كانت ماري فان غوتيم ابنة غاسلة، درست الباليه ووقفت موديلاً لديغا. نقلها في 26 رسماً من جميع الجهات، فكانت هي الثابتة وهو المتحرّك، ثم نحتها بالشمع وألبس المنحوتة ثوباً من قماش ووضع على رأسها شعراً مستعاراً. صدمت المنحوتة المشاهدين لدى عرضها للمرة الأولى في 1881 بواقعيتها، وذكّرت بسمعة الراقصات السيّئة. «إنها جرذ من الأوبرا» قال كاتب يومها «يتعلّم حرفته بكل غرائزه الشريرة وميوله الخبيثة». في المعرض نسخة برونزية من ستين سمح بصبّها بعد رحيله مع الرسوم. التمثال الأصلي في الغاليري الوطنية في واشنطن، والأرجح أن هشاشته تمنع نقله. قال إنه هدف من منحوتاته إلى تقديم «الحركة في حقيقتها الدقيقة»، وعمل غالباً مع موديل في الاستوديو لتجميد الحركة التي رآها في الدروس والعروض. على أنه لم يعرض في حياته إلا «الراقصة الصغيرة ابنة الرابعة عشرة»، وبعد وفاته عرضت التماثيل الأخرى بعد صبّها بالبرونز. اشتهر في أربعيناته بتخصّصه في الرقص، وقيل إنه «مسكون ومنشغل في شكل غريب بالشكل المتحرك». حلّل «الحيوان الإنساني» وحركته ثم جمعه ثانية في عملية بطيئة أليمة، ودوّن ملاحظات على تقنيات الراقصات اللواتي رسمهن. كان عليه الرسم بسرعة خلال الرقص لتسجيل الحركة، والتصحيح والإضافة عند تكريرها، وتجاهل تعابير الوجه لتفضيله الحكي بالجسد. في رسم «راقصة: تحضير من داخل» من 1880 تبدو الفتاة مندفعة بسرعة إلى خلف كأنها تكاد تقع. لها أذرع عدة في مواضع متتابعة، وتغيرت حدود الجسم مراراً وفق استدارتها. تحمّس لإمكانات التصوير الفوتوغرافي بعدما سخر كثيرون من الكتاب والفنانين منه، ورآه بودلير مثلاً «عدو الفن الأكثر فتكاً». قال إن ما يريده صعب: «مناخ المصابيح ونور القمر». أي انعكاس الضوء على الأجساد والقماش وتوهج الجلد به. حين رأى أفلام الأخوين لوميير عن الراقصات رغب بالتقاط الطاقة نفسها في أعماله، ورأى الباليه استعادة لحركة الإغريق مع أن أسلوبه لم يكن رسمياً مثلهم. انعزل بعد تقدمه في العمر وضعف نظره، لكنه بقي يرسم من الذاكرة ومع موديل. على أن راقصاته فقدن الحيوية مثله، وبدون متعبات على المقاعد أو في الكواليس إلى أن راجت العروض الروسية السريعة على المسرح وفي الأفلام. حقّق مائيات بهيجة، قوية الألوان عنهن قد تكون الأفلام حافزها. استخدم كل الأدوات من قلم وفحم وطبشور وزيت وشمع وألوان مائية، ورسم بأصابعه في حقبته الأخيرة. اتهم بالتلصّص وامتلاك عين باردة لرسمه الراقصات من خلف وتفضيله تعب ما خلف المسرح على المجد والاستعراض أمام الستار. أقل من خمس أعماله تقتصر على الرقص على الخشبة لاهتمامه بالرحلة والطريق، وهرباً من اتهامه برسم صور علبة الشوكولا.