لقطات أشبه بشريط القصص المصورة تتوالى فيها الصور الواحدة تلو الأخرى في تواتر من المضحك المبكي. طفلة صغيرة عمرها خمس سنوات تمسك بيد والدها والفرحة لا تسعها. أسعد أيام حياتها هي حين يوافق والدها على اصطحابها معه إلى مقر عمله، لا سيما أنه بعد انتهاء الدوام جرى العرف على أن يذهب بها إلى الميدان لشراء كوز الذرة المشوي الذي لا تهضمه إلا كرتان من الآيس كريم تلتهمها في حديقة الميدان الشهيرة. فتاة في ال 15 وصديقتها المقربة تعبران الميدان وتكاد أقدامهما لا تلمس الأرض. فراشتان طليقتان تحررتا لمدة ساعتين من «المعتقل»، حيث لا مجال إلا لأوامر «ماما» بتنظيف الغرفة والمساهمة في أعمال المطبخ وتوجيهات «بابا» بعدم الوقوف في الشرفة لفترة طويلة. هما في طريقهما لاقتناص ساعتين من التسكع في شوارع القاهرة تنتهي بالتهام قطعة بسبوبسة بالقشدة قبل التوجه مجدداً الى الميدان في طريق العودة إلى «المعتقل». ومن تحرر المراهقة الأسبوعي إلى حرية الشباب اليومية تحولت رحلة عبور الميدان من طقس أسبوعي إلى روتين يومي. حياة الجامعة نقلة فريدة في عالم الفتاة خريجة مدرسة الراهبات غير المصرح لها بالحديث إلى غير الإناث، إلا بعد تقديم قائمة مبررات يجب أن يصدق عليها الوالد، تعبر اليوم الميدان مع «شلة» الجامعة المختلطة. محل البيتزا الرابض في فندق النيل هيلتون المشرف على الميدان ملتقى شباب وبنات الجامعة الأميركية. تعرف جيداً أن السبب الحقيقي لعبورها الميدان ليس البيتزا – التي تضطر بسببها للاقتراض من شقيقتها الكبرى لتسديد ثمنها - ولكنه الشعور بأنها حصلت على صك النضج والحرية. لقد صارت عضواً فاعلاً في «شلة» مختلطة ليست حكراً على «منى» و «نهى» و «سها» وربا»، بل فيها متسع ل «تامر» و «هيثم» و «حامد» وأيضاً «توم» و «بوب» و «روب» القادمين عبر البحار لتضمية عام دراسي بين الجامعة والميدان. لكن للميدان أوجهاً أخرى غير فرحة الاختلاط ونشوة الحرية. فالغالبية المطلقة من مجتمع الجامعة لا تعرف عن المواصلات العامة سوى شكلها الخارجي باعتباره مظهراً غير حضاري ومنزوع الإنسانية يمر في الميدان متمثلاً بباصات حمر متوحشة حيناً وميني باصات بيض متربصة أحياناً. لكنها في هذا الشأن أكثر خبرة وأعمق معرفة. فهي لا تملك سيارة تقلها من الجامعة واليها، كما أن مصروفها الشهري لا يحتمل أجرة التاكسي. وهذا يعني أن علاقتها بالميدان لم تقتصر على مجرد عبوره، ولكنها امتدت إلى قضاء ساعات يومية انتظاراً لهذا الباص الأحمر أو ذاك الميني باص الأبيض، وهو ما عمق علاقتها بالميدان الذي تقول عنه دوماً «أخذ من عمري طبقات وطبقات»! لا يجمع بين هذه اللقطات إلا الميدان. هو ميدان التحرير الوجهة الأشهر في مصر هذه الأيام، ليس فقط لأنه أشبه بالنقطة المحورية التي ينبغي أن يمر بها عابرو القاهرة الكبرى، لكنه بات مزاراً وملتقى بعد ثورة يناير التي تفجرت منه. لكن صور اليوم ما عادت باللونين الأبيض والأسود، بل تعددت الألوان وصارت تشمل الأحمر لون الدماء التي سالت فيه إبان الثورة، والبني لون الجمال التي هجمت على المتظاهرين في «موقعة الجمل»، والأخضر لون الزرع الذي اختنق تحت أوتاد خيام المعتصمين، والأصفر لون الذرة المشوية والمشروبات الساخنة التي يبيعها الباعة الجوالون الذين يعيشون أزهى عصور الحرية في ظل غياب مطاردات «البلدية» لنشاطهم غير القانوني، والأزرق لون السماء التي تقف شاهداً على تاريخ الميدان الحافل منذ كان «ميدان الإسماعيلية». ربما كان شعوراً بالعرفان أو الامتنان أو حتى الحنين هو الذي دفع تلك الصحافية الناشئة لأن يكون الموضوع الصحافي الأول الذي تكتبه عن «ميدان التحرير». كان اسمه «الإسماعيلية» نسبة إلى الخديوي إسماعيل الذي أغرم بباريس، فأراد استنساخها في قلب القاهرة. وظل يحمل اسم «الإسماعيلية» حتى بعدما تحول إلى ساحة للتظاهرات المنددة بالاحتلال البريطاني، لا سيما أن جنوده كانوا يعسكرون في مخيمات تطل على نهر النيل، وتحديداً حيث يقع فندق «النيل هيلتون» سابقاً، أو «ريتز كارلتون» حالياً. ويعرف كل من كبر وترعرع في أحضان القاهرة أن حمامات «النيل هيلتون» لطالما استقبلت جموع المواطنين والمواطنات الذين أعياهم انتظار الباصات العامة لساعات من دون توافر حمامات لقضاء الحاجة، فظلوا لعقود طويلة يتظاهرون بدخول الفندق بغرض التردد على أحد مقاهيه أو مطاعمه، ثم التسلل الى حمامه النظيف المعطر. أما مجمع التحرير – معقل البيروقراطية القاتلة العقيمة ورمزها في مصر – فيقف شامخاً متحدياً كل ما يجول به الميدان من ثورة وثورة مضادة، ووقوعه لقمة سائغة في أيدي البلطيجة والباعة الجوالين، وقيام جموع المعتصمين بنقل خيامهم من حديقة الميدان الشهيرة في وسطه إلى الحديقة التي يطل عليها مبنى المجمع. هذا المبنى الذي بدأ بناؤه في عهد الملك فاروق، وانتهى العمل فيه إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. وهو العهد الذي شهد كذلك تغيير إسم الميدان من «الإسماعيلية» إلى «التحرير» بعد قيام ثورة تموز (يوليو) عام 1952، وذلك في إشارة إلى التحرر من الاستعمار البريطاني وحكم أسرة محمد علي. الإبقاء على إسم الميدان بعد ثورة يناير أمر منطقي، فالمصريون تحرروا من حكم النظام السابق الذي حول الفساد إلى فكر منهجي مؤسسي. لكن عملية التحرر لم تكتمل بعد. وزوار الميدان الأشهر في العالم حالياً يجيئون تارة كزوار يريدون أن ينهلوا من نهل التحرير الثوري، والخروج بتي شيرت مطبوع عليها «إرفع راسك فوق أنت مصري»، وملصق «شهداء يناير»، وتارة أخرى كمعتصمين مقيمين اكتشفوا أنهم ما زالوا غير قادرين على رفع رؤوسهم فوق على رغم التنحي وإسقاط النظام، فعادوا مجدداً! فريق ثالث يحاول فرض سيطرته على «ميدان التحرير»، وهو فريق متناغم متناسق، وإن كان يحوي فئات عدة. بلطجية مبتدئون خرجوا من جحورهم بعد الثورة وجاؤوا ينعمون بنعيم الانفلات الأمني. وهناك البلطجية المحترفون الذين غالباً ما يستعين البعض بخبراتهم وخدماتهم ضمن جهود الثورة المضادة. ميدان التحرير تغيرت معالمه وتبدلت ملامحه. موقف الباصات الحمر المتوحشة والميني باصات البيض الصغيرة تمت إزالته. والمتحف المصري محاط بمدرعات عسكرية بغرض حمايته. والحديقة الدائرية في وسط الميدان صارت صحراء جرداء لتكرار تخييم المعتصمين فيها. وإشارات المرور – أو ما تبقى منها بعد الكثير من أعمال العنف - لا علاقة لها بتنظيم سير السيارات الذي ينظمه ما تبقى من رجال المرور حيناً، والشباب المتطوعون حيناً، أو يسير ببركة دعاء الوالدين أحياناً. لكن وعلى رغم ذلك يبقى «ميدان التحرير» نقطة ارتكاز للجميع. ما زالت هناك طفلة تتعلق بيد والدها تبحث عن بائع «آيس كريم». وما زالت هناك مراهقة تتنسم عبق الحرية بعيداً من الأهل وشابة جامعية تتحسس أولى خطواتها في عالم يجمع الجنسين. وما زالت هناك ثورة تدور رحاها ومستقبل ينتظر البلورة.