لكلّ مخلوق أو مكوّن من جماد أو نبات عطره ورائحته وبعض شميم. لكلّ شيء شكله ودوره ووظيفته. والعطر كالشكل يرافق الأصل والفصل، يرافق الجوهر والوجود. يلازمهما حتى يصبح جزءاً لا يتجّزأ منهما. فيصعب عليك الفصل أو التمييز. للأرض عطرها وطيبها. للمعدن عطره ورائحته. للشجرة مسكها وسحر فَوحها. للصخر كذلك طيبه وعبقه، وكذلك للماء، للتراب، للخشب، للورق... وللحبر. أَرَجُ الحبر ليس في سيل القلم وحده، ليس في المحبرة وحدها. هو على الورق، وفي آلة الطباعة، بل في أرجاء المطبعة برُمّتها. فَوح الحبر ينتشر في غُرَف المطبعة، في دوائرها، فيُعَطِّر دائرة التحرير ودائرة رَصف الأحرف، ودائرة الطباعة، ودائرة التجليد، ناهيك عن دائرة المخزن بمؤلّفات تولد كل أسبوع في شتّى ميادين المعرفة وفي غير لغة وغير غرض أدبي أو عِلْم سياسيّ أو اجتماعيّ أو اقتصاديّ. هذه كلمات هي ضرب من الذكريات الحميمة، وجزء لا يتجزّأ من سيرة ذاتيّة شخصيّة، فكاتب هذه السطور نشأ في مطبعة، وترعرع في دار نشر، هيّآ له معنى الكتاب وقيمة الكتاب وأبعاد الكتاب ودَور التأليف والمؤلّفين ودُورَ النشر ورعاية النتاج الأدبيّ والفلسفيّ والاجتماعيّ، والسياسيّ، ومعنى حضور هذا النتاج في وطن حديث العهد بالاستقلال وحديث العهد بتثبيت أركان الدولة الحديثة. كنتُ في العاشرة من عمري يوم كان الوالد يأخذنا وإخوتي الصغار، في يوم عطلة مدرسيّة، من منزلنا في شارع الحمراء إلى المطبعة في باب إدريس، وسط بيروت. كان الموقع بين شارع البطريرك الحويك وفندق النورماندي قبيل الجادة المعروفة باسم جادّة الإفرنسيين. تستقبلك حديقة غنّاء تنتهي بدرج صغير بارتفاع متر ونصف تقريبًا يؤدي بك إلى بهو فسيح تتقدّمه مكتبة تحمل حوالى ألف كتاب معظمها من منشورات دار الرَّيحاني للطباعة والنشر وتحيطها مكاتب المحررين والإدارة العامّة: مكتب الوالد ألبرت، صاحب الدار، مكتب مدير المطبعة، مكاتب المحررين والرسّامين، وعددها أربعة مكاتب. وقد تحوّل واحد من هذه المكاتب للورين الريحاني صاحبة مجلّة دنيا الأحداث ورئيسة تحريرها. الداخل إلى المطبعة في دار الريحاني للطباعة والنشر يجد نفسه، وراء المكتبة، في غابة من صناديق تنضيد الأحرف (أو صف الأحرف). خمسة غرف كبيرة تمتد فيها الصناديق المتنوّعة، مرتّبة صفوفًا طويلة أو قصيرة لِصَفّ الأحرف على أنواعها وأشكالها وقياساتها: ثلاث غرف للأحرف العربيّة مع حركاتها وغرفة لصف الأحرف الإنكليزية وأخرى لصف الأحرف الفرنسية مع حركاتها. المطبعة، كل مطبعة، تكمن روحها في صندوق صف الأحرف، وصندوق صف الأحرف في تنضيد الحروف كلمة كلمة، وجملة جملة، ثم سطرًا سطرًا وصفحة صفحة. أما «الإنترلين» (interline)، أي المسافة ما بين السطور، كالمسافة بين أساليب الكُتّاب، أو بساطة وتعقيد لغتهم، أو طول وقِصَر أنفاسهم، فقصّة بحدّ ذاتها تبدأ ولا تنتهي. قيل إن أمين نخلة تعلّم صف الأحرف في المطبعة لهدف واحد لا لسواه: وهو أن يضبط معلّم صف الأحرف في سوء استعمال «الإنترلين» فلا تتفاوت المسافات بين أسطر الصفحة الواحدة ما يُشَوّه إخراج الصفحة وتناسقها الذي يُفترض أن يُراعي الذوق الطباعي في «الميزامباج» (mis-en-page). والذوق الطباعي لا يقتصر على شكل الحرف، أو أنواع الخطوط العربيّة واللاتينيّة، بل يتجاوز ذلك إلى قياس الحرف والموازنة بين حرف أبيض كهذا الذي تقرأه وحرف أسود أي حبره أشد اسودادًا كحبر هذه الكلمات الأخيرة. ولكل كاتب خياراته في اختيار المفردات المحبّرة (bold). أما الخطوط العربيّة ففنّ قائم بذاته. يكفيك دليل أحرف دار الريحاني كي تجول في طيّاتها وثناياها وأشكالها وأحجامها وسياقاتها الفنّيّة بالعربيّة واللغات الأوروبيّة، والتي تساهم في جمال إخراج الصفحة الواحدة، ومنها كلّ صفحات الكتاب. ولا ننسى أن قياس الصفحة وقياس السطر الواحد لهما علاقة مباشرة، أو غير مباشرة، بإخراج الصفحة الواحدة، وتاليًا بإخراج الكتاب كوحدة فنّيّة متكاملة. كان للخطوط العربية واختيار الخط المناسب للموضوع المناسب عمل له علاقة بفهم خصائص تلك الخطوط لتبرير الخيار المناسب والملائم لهذا الموضوع أو لسواه من المواضيع، أو لهذا الغرض الأدبي أو لغيره من الأغراض الأدبيّة. وكثيرًا ما يشترك مدير المطبعة، وأحيانًا صاحب الدار، مع المؤلّف في الوصول إلى الخيار المناسب الذي يتفق عليه الجميع أو تستحسنه أكثرية المعنيين بهذا الأمر: مُعَلِّم الصف، ومُعَلِّم الطباعة، ومُعَلِّم التجليد الفني إضافة إلى مدير المطبعة وصاحب الدار في المناقشات التي تسبق القرار الأخير في هذا الشأن. نعود إلى الخطوط العربية: ومن أشهرها الرّقعي. ولا أدري لماذا يرتبط، في ذهني على الأقل، بمعنى «الترقيع»، ربما لأنني لا أحبّ هذا الخط بسبب شكله الغليظ وحجمه الأغلظ وارتكاز حروفه المتوازية على السطر، لا فنّ فيه ولا تفنّن أو تصرّف أو أسلوب أو إبداع. هو خطّ جافّ لا طعم فيه ولا لون ولا رائحة. يُستعمل، معظم الأحيان، في المواضيع التجارية التي يتساوى فيها كلّ العاملين في الشأن التجاري، فيسرد المعنى ببرودة تامّة لا ميزة فيها ولا أسلوب، أو هكذا أراه. قيمته الطباعية أنّه الأكثر رواجًا للمطبوعات التجاريّة العاجلة. خطّ الثلُث أو هذا المنحني، المتمايل يمينًا ويسارًا. تجده مرنًا ومتينًا في آن. والثلث رائج في الطباعة على رغم حجمه السميك الذي يفقده الكثير من الأناقة والجمال. وكان يُخصّص في دار الرَّيحاني للإعلانات والعناوين العريضة من دون استعماله في النصوص. خطّ النسخ سُميّ كذلك لكثرة استعماله في نسخ المصاحف والكتب المخطوطة. أستعمل في عصرنا لتنضيد الصحف والمجلات. وقد اعتُمِد هذا الخط لتطوير تصميم الحروف على آلة الكومبيوتر لتنضيد صفحات الكتب وفق نظام الماكنتوش والويندوز. فهو الأكثر مرونة بين الخطوط العربيّة. وكانت دار الرَّيحاني تخصّص خط النسخ لطباعة المجلات والدوريات الصادرة عنها بخاصة في خمسينات وستينات القرن العشرين. الخط الكوفي يمتاز بإمالة حرف الألف وحرف اللام وامتدادهما بحيث يأتي هذا الخط مستجيبًا بعض مخارج الحروف المشبعة. والإشباع مشهور في الإلقاء العربيّ لدى العراقيين، إذ يلتقي جمال الخط بجمال اللفظ، وتأتي الطباعة مواكبة للجمالَين شكلًا وتناسقًا مع جمال الإشباع في النُطق العربي. وكانت دور النشر المهتمّة بإخراج الكتُب العربيّة إخراجًا أنيقًا مميّزا تختار الخط الكوفي لعناوين الكتب وعناوين فصولها الداخليّة. من هنا أن الخطّ الكوفي في دار الرَّيحاني كان مخصّصًا لزخرفة الكتُب العربيّة بعناوينها الخارجيّة والداخليّة. وبرز الخطّ الفارسيّ بقدرة امتداد العديد من حروفه على دقّتها ووضوحها. وهنا يتبلور جمال الحرف بخروجه عن المساحات الضيّقة وانبساطه على أوسع مساحة ممكنة. وهذه الخاصّة تعطي مجال التخيُّل والإبداع في هذا الخط أقصى طاقاتها وأبعد مراميها. أضف إلى ذلك استدارات بعض الحروف فيه بحيث يُفسح في المجال للفنّانين، والكتُب الفنيّة، باعتماد هذا الخط لتناسقه ورشاقته وإمكانيّة الإبداع فيه. من هنا إن عمل الطباعة الفنيّة في دار الرَّيحاني، وما يرافقها من نتاج الرسّامين، كان إذا ما أحيل على النشر فبالخط الفارسي بالدرجة الأولى، يتبعه الخط الكوفي فخط النسخ. ولن أعدّد كل الخطوط العربية كافّة، ومنها أيضًا الديوانيّ والأندلسيّ وسواهما... بل أكتفي بإضافة الخطّ الريحاني الذي تفرّدت الدار باقتنائه آنذاك، ربما بسبب التسمية وجمال هذا الخط، وهو المعروف بإطالة الألف واللام ونهايات الأحرف فيه كأعواد شجر الرَّيحان. ويشبه الخط الرَّيحاني، إلى حد بعيد، الخطّ الفارسي مع بعض خصائص الخط الكوفيّ. كانت دار الرَّيحاني تستبدل خط النسخ بخط الرَّيحان في كثير من كتبها المنشورة أو بعناوين خارجيّة أو داخليّة لتلك الكتُب. أذكر كيف كان مُعَلّموا تنضيد الأحرف يختلفون على تفضيل الخطوط العربيّة وخطوط الأحرف اللاتينية، ومن أبرزها Bold Italic Art, Book Antiqua, Britannic Bold, Swis721, MS Gothic, Stencil, Times New Roman, Wide Latin... كان كلّ خطّ من هذه الخطوط العربيّة أو اللاتينيّة يعني، للعاملين بها، الذوق والأناقة والجمال، أضف إلى ذلك الاختصاص. بلى، صارت أنواع الخطوط، أو الحروف، تختص بأنواع معيّنة في الطباعة والنشر، فهذا للمجموعات الشعريّة، وذاك للروايات، ونوع ثالث للكتب السياسيّة، ورابع للدراسات الأدبيّة، وخامس للنصّ الأدبي الإنكليزيّ، وسادس للقصائد الفرنسيّة، وإن حار أمرك في الاختيار الفرنسيّ مثلاً عُد إلى مجموعة شعريّة لبول إليوار أو أندريه بروتون وابحث في تلك المجموعة الصادرة عن دار غاليمار أو منشورات لو سوي، عن نوع الحرف ونوع الخط في العناوين... وهكذا يختلط المضمون بالشكل وبالإخراج وبأناقة الكتاب بحيث يخرج هذا الكتاب أو ذاك عن مطابع دار الرَّيحاني ليُشار إليه بالبَنان أو يُعرف سلفًا من أنّه من منشورات دار الرَّيحاني للطباعة والنشر. * يتبع جزء ثانٍ