المعرفة في خدمة الهيمنة، هذه النتيجة هي المختصر المفيد لحصيلة التوازنات التي حكمت سياسات مصر أو بالأحرى حكوماتها في الإصلاح الاقتصادي والزراعي طيلة قرنين من الزمان، يحللها مفكر سياسي بريطاني في كتاب صدرت ترجمته حديثاً عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، ويناقش خلاله ممارسة الدولة المصرية مع حلفائها (الرأسماليين) أشكالاً اعتباطية عنيفة للسلطة ومشاريع تبدو من الخارج أصابت هدفها لكنها محض «اختلاق»، توهم الجميع بأن الاقتصاد كالخرائط المسطحة يمكن مسحه بسهولة. الكتاب هو «حكم الخبراء... مصر، التكنو - سياسة، الحداثة» للمفكر البريطاني تيموثي ميتشل أستاذ العلوم السياسية في جامعة نيويورك، وترجمه إلى العربية بشير السباعي وشريف يونس عن الأصل الإنكليزي الذي صدر عام 2002 عن دار جامعة كاليفورنيا، وبإمكان هذه الترجمة أن تفتح المجال لاستلهام تلك الطريقة النادرة في الدراسات الأنثروبولوجية التي هي في حقيقة الأمر مجردة جداً وصعبة حتى بالنسبة للباحثين المحترفين والمهتمين بالنظريات. نحن نتعامل في هذا الكتاب وفق شرح شريف يونس المترجم وأستاذ التاريخ مع مفكر صاحب مدرسة تلقى سخطاً واسعاً من علماء السياسة في الغرب نفسه. فالقضية ليست رفض علم القرن التاسع عشر لصالح علم القرن الحادي والعشرين، إنما هو تساؤل عن علاقة العلم بالسياسة أصلاً، وهل يوجد «علم» من العلوم الإنسانية ليس هو نفسه مشروعاً سياسياً بالتدخل؟ في إطار ما يكشف عنه تيموثي وهو صاحب كتاب آخر بعنوان «استعمار مصر»، بالأرقام والسجلات، من أن الصفقات التي خاضتها الحكومة كانت استعمارية في جوهرها أو داعمة لنفوذ الدولة المركزية، كان السباعي طرح موضوعاً للجدل وفتحه للتداول إعلامياً وقضائياً في ندوة عقدت أخيراً لمناقشة للكتاب عقب صدور ترجمته، يتعلق بقيام عضوة سابقة في مجلس الشعب (البرلمان) المصري بالحصول على رشوة من شركة أميركية للطائرات. كتب الشاعر والمترجم على مدونته «مبدأ الأمل» أنه دعا إلى التحقيق في ما ذكره الكاتب، في شأن اتفاق شركة لوكهيد في عام 1988 على دفع رشوة قدرها 600000 دولار لسيدة عضو في البرلمان المصري، تبين أنها ليلى تكلا، كما ورد في حاشية الكتاب نقلاً عن صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية بتاريخ 28 كانون الثاني (يناير) 1995، بأنها استخدمت نفوذها لإقناع الجيش المصري بشراء ثلاث طائرات نقل من طراز هركيوليز سي - 130 التي تنتجها شركة «لوكهيد»، وأنه لدى اكتشاف مراقبي الحسابات في البنتاغون الرشوة، تعهدت الشركة بعدم دفعها، إلا أنها قامت بعد ذلك بسنة بدفع مليون دولار، وفقاً للنيابة الأميركية، تحت غطاء «رسوم تخليص». وأقرت «لوكهيد» بالذنب في قضية رفعت بموجب قانون الممارسات الفاسدة في الخارج والصادر في عام 1977، وجرى تغريمها مبلغ 24 مليون وثمانمئة ألف دولار، وهو ما يمثل ضعف الربح الذي حصلت عليه من الصفقة. الكتاب في تسعة فصول، مرهق وصعب للغاية، لكنه على أية حال خطير ومهم، يبحث صاحبه الذي أقام مدة طويلة في إحدى قرى جنوب مصر تعرف بنجع الحاجر قرب مدينة الأقصر في سلسلة أحداث كبرى في تاريخ وسياسة مصر المعاصرة في المجالين الاقتصادي والزراعي على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وهو ما أتاح له التعرف من قرب على معظم هذه الأحداث، وكان أن نشر أبحاثه عن تلك الفترة في مجلات وكتب ومؤتمرات عديدة، فقد كتب مثلاً عن العنف في الريف المصري، وهو هنا يجمع بعضاً من أبحاثه في هذا الكتاب. يسلط المؤلف الضوء في شكل خاص على الاقتصاد بوصفه علماً سياسياً بالأساس ونمطاً لرؤية العالم وطريقة لتنظيمه وتشخيص الحالة الأساسية لبلد ما. المؤلف يلوم النظرية النقدية التي فككت مفاهيم العلم الاجتماعي ومقولاته كلها على أنها ثقافية واستبعدت الاقتصاد منها، وهي مفاهيم الطبقة والأمة والثقافة والمجتمع والدولة والجنوسة والعرق وغيرها، يقول: «الاقتصاد السياسي لم يكن معنياً بسياسة الاقتصاد بقدر الاقتصاد المناسب لدولة أو لحكم دولة». يشرح شريف يونس هذه النقطة قائلاً: «ما يود المؤلف قوله أن ما نسميه معرفة هو في حد ذاته فعل تنظيم يغير الواقع لا يعبر عنه. فالخريطة الزراعية للريف مثلاً لا يعتريها فقط مشاكل في الدقة، لكن هي نفسها تغير توزيع السلطة والمعرفة. وبالمنطق نفسه يرى تيموثي أن علم الاقتصاد هو إجراء سياسي ظهر في فترة معينة ليلبي حاجات معينة». تمتد فصول الكتاب من ذروة السلطة الاستعمارية البريطانية في مصر في العقود الأخيرة للقرن التاسع عشر إلى برامج التكيف الهيكلي وتحقيق الاستقرار المالي التي طرحها صندوق النقد الدولي في ختام القرن العشرين. من إحدى مشكلات مصر التي واجهتها في المجال الزراعي لم تقتصر على التسحب من الأرض والتمرد المسلح من قبل القرويين، فقد جلبت أعمال الري والمسح الزراعي قوتين إضافيتين: المرض والديون، هنا يوضح شريف: «إن المعرفة في حد ذاتها فعل، والمعرفة الحديثة هي في حد ذاتها فعل استعماري، سواء كانت القوى داخلية أم خارجية. فالقضية ليست فيمن أجرى المسح الزراعي وأنهم إنكليز مثلاً، فسواء أجروه المصريون أو الإنكليز يتم تعزيز الدولة المركزية الحديثة على حساب الناس». التاريخ في مصر من وجهة نظر المؤلف ظل محصوراً بين البريطانيين الذين يتلاعبون بالسياسة المصرية ويقاومون اغتصاب الأميركيين لدورهم، وبين النخب القومية الملكية والارستقراطية الصغيرة مالكة الأرض، ثم طبقة ملاك الأرض التجاريين وأصحاب المشاريع وضباط الجيش، وأخيراً الجماعات التابعة من سكان الريف والطبقات العاملة والنساء. ويرى السلطة في مصر «نفعية» تعمل من خلال سلسلة من الأوامر الشخصية ومجموعة مترابطة من الامتيازات والمصالح لا كنظام عام للحكم. لذا نجده كثيراً ما يقف في فصول الكتاب على التوازنات التي حكمت أدوار القوى الفاعلة في مصر الستينات والسبعينات وأواخر القرن العشرين. فمثلاً كان مشروع «توطين البدو» في نظر المؤلف شكلاً من أشكال السيطرة على الريف والأراضي والأرزاق. من ناحية أخرى، مثلت العزب والقرى المنظمة تطوراً جديداً في آلية توزيع السلطة والاحتجاز والمراقبة والاستبعاد، وزيادة قوى الدولة على المجتمع الريفي، خصوصاً عندما يسرد لنا المؤلف ما يدلل على أن العزب لم تكن جميعها ملكاً لموظفي البيت الحاكم، ولكن أعيان من سادة الريف أو شيوخ القبائل، يقول: «كانت العزب آلية إعادة الترتيب هذه، وانطوت عملية إعادة الترتيب كذلك على إنكار وتمايز واستبعاد». وما رآه المساحون للأراضي الزراعية تغييرات حديثة كان في حقيقة الأمر استثناءات. في باب عن الدراسات الفلاحية يتحدث أخطر فصول الكتاب بعنوان «اختراع وإعادة اختراع الفلاح» عن حكومة ظل أميركية في القاهرة، يشرح المؤلف بشيء من التفصيل مضامين الكتابات والدراسات التي أسست لأوضاع الفلاحين في مصر في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ومنها كتاب ريتشارد كريتشفيلد «شحات مصري» وكتاب هنري عيروط «الفلاح المصري»، ويصل إلى حكم نهائي هو افتقار الشرق الأوسط إلى فحوص نقدية للمجتمع الريفي. أما الفصل الذي يتناول العنف الريفي فيقدم فيه المؤلف بعض الشواهد على العنف السياسي ضد الفقراء في ريف مصر في الستينات، والسبب النموذجي للعنف في القرية بحسب تحليل المؤلف هو نزاع على السيطرة على أرضها، بينما يسجل معظم المزارعين الأغنياء أراضيهم تحت أكثر من مسمى، وهذا وحده انتهاك لقوانين الإصلاح الزراعي. يلفت المؤلف كذلك إلى التخلف عن دراسة مسألة العنف السياسي ضد الفقراء في الكتابة الأكاديمية الغربية عن مصر الريفية في الخمسينات والستينات، يدلل على ذلك بدراستين أميركيتين تحللان فترة التدخل الناصري في الريف هي: «السياسة الريفية في مصر عبد الناصر» 1971 لجيمس مايفيلد، و «التعبئة السياسية للفلاحين» لإيليا حريق. أما كتاب مايفيلد فهو عبارة عن دراسة للاتحاد الاشتراكي العربي الذي أنشئ في 1962 كجزء من عملية تدخل رأسمالية الدولة في الريف، وتعتبر تلك الدراسة مواصلة للكتابة الاستعمارية عن الريف المصري والمتحاملة على الفلاح المصري. في الفصل السابع بعنوان «موضوع التنمية» يدرس المؤلف إصلاحات السبعينات والثمانينات ومنها سياسة الانفتاح الاقتصادي، ويحكم على عمليات الاستحواذ على الريف وثروته بوصفها عملية سياسية بحتة، تشابكت فيها مصالح مجموعة من مديري وبيروقراطيي الدولة والقطاع الخاص الذي تسانده الحكومة وكبار ملاك الأراضي، ويستعين المؤلف بمقولة مسؤول في برنامج تموله الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (التي كانت لا تزال تلعب دوراً محورياً حتى أعوام قريبة في مصر تخللها نفوذ الجيش المصري) لمسؤولين حكوميين مصريين: «حكمت مصر على مدار قرون كنظام سياسي يتميز بعملية صنع للقرار تتميز بدرجة عالية من المركزية». أما شريف يونس فيقول: «يريد المؤلف تأكيد أن المعرفة المتباهية بنفسها هي دوماً إجرائية وناقصة، تقول شيئاً، ولكن أثرها شيء آخر. يريد البنك الدولي اقتصاد السوق، ويحدث اقتصاد سوق بالفعل، ولكن بطريقة مختلفة تماماً عن التوقعات. لأنها تقوم على ثنائيات مفتعلة: الإنسان/ الطبيعة، الدولة/ المجتمع، إلى آخره». في الفصل التاسع والأخير عن مشروع توشكى ومدن الأحلام، يحكي المؤلف عن محاولات الرئيس المصري السابق حسني مبارك إحياء خطط ترجع إلى خمسينات القرن العشرين لإقامة وادٍ موازٍ للنيل يروي مليوني فدان من الصحراء الغربية، ولما عجزت الحكومة عن إقناع البنك الدولي أو المستثمرين بأن مشروع توشكى معقول، باشرت ببناء محطة ضخ المياه وشقت أول سبعين كيلومتراً من الترعة وأذاعت صوراً تلفزيونية للحفارات وهي تعمل في الصحراء. في النهاية ينتقد المؤلف تطورات تملؤها التناقضات ومخططات كارثية من الناحية البيئية ويقول: «كان المفترض أن تزدهر مصر ببيع فواكه وخضراوات لأوروبا والخليج لا بتمهيد حقولها لبناء طرق دائرية». المشكلة في نظر ميتشل هي أن المصالح العامة كانت متداخلة مع مشروعات جماعات أصحاب نفوذ لم تكن قادرة على ضبط أفعالها، فالرأسمالية كما يعرفها أستاذ العلوم السياسية كائن طفيلي يتغذى على عقول البشر ويستمد طاقته من اندفاع رغبات الآخرين. لم تستطع الرأسمالية في مصر طوال قرنين من الزمان احتواء رغبات الحكام والسلطة المركزية ولا أن تضع ضوابط للعمليات التوسعية في الصحراء مثلاً، كانت توشكى موضوع رغبة الحاكم ليبني شيئاً يبقى كذكرى لحكمه، أرض أحلام (دريم لاند) أو حكاية خيالية تنتظر التحقق ولم تتحقق حتى تنحيه، «أراضي الأحلام هذه هي أماكن للرغبة لا تستطيع الرأسمالية أن تحتويها» كما يقول تيموثي ميتشل، أما الأكثر تناقضاً أن هذه الطريقة المنقوصة تمنح للرأسمالية قوتها وفشلها في الوقت نفسه.