حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    جدّة الظاهري    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام السياسي إبن تراثه لكنه مدين أيضاً لأفكار الثورة الفرنسية
نشر في الحياة يوم 30 - 04 - 2011


«عصر الثورة»، «عصر رأس المال»، «عصر الامبراطورية».
وضعتُ هذه المؤلفات الثلاثة، التي استكملتها بكتاب رابع عن «تاريخ العالم منذ الحرب العالمية الأولى حتى سقوط الاتحاد السوفياتي»، ليقرأها، كما تقول مقدمة الكتاب الأول، «المواطن الذكي المتعلم الذي لا يسعى الى إشباع فضوله لمعرفة الماضي فحسب، بل يريد ايضاً ان يفهم كيف ولماذا اصبح العالم على ما هو عليه الآن، وإلام سيؤول». وتعالج هذه المؤلفات الأربعة كلها اكثر الفترات اهمية في تطور البشرية منذ ما اصطلح على تسميته «ثورة العصر الحجري الحديث»، قبل نحو عشرة آلاف سنة، التي شهدت بدايات الزراعة، واستخدام المعادن، ونشوء المدن، والسجلات المدونة للنشاط والفكر الإنسانيين. إن التقسيم الزمني لمراحل التاريخ البشري عملية مختصرة بمعايير علوم الإحاثة، والآثار وطبقات الأرض. بيد ان الفترة التي تتناولها هذه المؤلفات، على مدى قرنين ونصف قرن تقريباً، تغطي أجيالاً بشرية قليلة، وهي مدة قصيرة على نحو كاف لأن تستوعبها ذاكرة عائلة واحدة.
وقد لا تكون ثمة حاجة الى إيضاح التحول المثير الذي طرأ على الحياة الإنسانية خلال هذه الحقبة، حتى قبل أن تتسارع خطوات التغيرات التاريخية العالمية في التعبير عن السرعة، خلال نصف القرن الماضي، إلا ان في وسعنا ان ندلل على ذلك بواحد من أقدم الأنشطة التقليدية في العالم الإسلامي، هو الحج الى مكة، فقد كان، لقرون عدة، يتم بصورة أساسية براً بالقوافل أو سيراً على الأقدام. غير ان تقانة القرن التاسع عشر، الممثلة في قناة السويس، والسفن البخارية والسكة الحديد، وافتتاح سكة الحجاز عام 1908 التي بُنيت اساساً لتيسير أداء فريضة الحج، قد تضافرت كلها لإنهاء عهد القوافل. ذلك ان آخر القوافل المهمة غادر القاهرة عام 1883. كما انها يسّرت لمسلمي جنوب شرقي آسيا ان يشاركوا في الحج مشاركة فاعلة مهمة من الوجهة السياسية. وبحلول عام 1900، كان عدد الحجيج وصل الى ما يتراوح بين ثمانين ألفاً ومئة ألف في السنة، وهو رقم لم يكن ممكناً تصوره حتى ذلك الحين. وبعد الحرب العالمية الثانية، كانت الآثار التي تركتها تقانة القرن العشرين على المواصلات البرية، وبصورة خاصة الخطوط الجوية، اكثر ثورية، إذ ارتفع عدد الحجيج الى ما يتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين حاج في السنة.
ليس ثمة نشاط بشري خارج نطاق الابتكار. ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يسّرت الطباعة والانتشار السريع للكلمة المطبوعة في أرجاء الشرق الأوسط عملية تطوير لغة حديثة نموذجية للمتعلمين الناطقين بالعربية، مقابل اللغة الفصحى من جهة، واللهجات المحلية المتعددة التي يصعب التواصل بها من جهة ثانية، وحيث إن الأفلام والتلفاز ينبغي ان يكونا مفهومين في أوساط الملايين من الناس على امتداد بلدان عدة، فإنهما قد خلقا، ربما للمرة الأولى في التاريخ، لغة محكية مفهومة عموماً في ارجاء بلدان المغرب والشرق الأوسط.
وبما ان التغير والتحول اصبحا من الخصائص المميزة لهذه البلدان، فليس من المستغرب ان تكون حتى الحركات المنادية بحماية التراث أو العودة إليه تطورات تاريخية مستجدة. ومن الخطأ الاعتقاد بأن السبب في اختلاف بلدان العالم الإسلامي كثيراً عن الديموقراطيات الدستورية في الاتحاد الأوروبي، مع استثناءات هامشية، هو ان هذه البلدان لم تتغير.
«الإخوان» حزب حديث
كان «الإخوان المسلمون» في مصر، وسيظلون، «حزباً سياسياً حديثاً»، له شكل من التنظيم السياسي ونهج في اجتذاب الأنصار، وبرنامج سياسي حافل بالفرضيات المستقاة من ميدان العمل السياسي الوطني، خلافاً لكل ما قام في العالم الإسلامي منذ قرنين، حتى وإن كانت أهدافه تتمثل في إقامة نظام اجتماعي قوامه الشريعة الإسلامية. وقد رأى بعضهم ان نهجاً تقليدياً في ظاهرة مثل «الحكومة الإسلامية» التي اختطها آية الله الخميني، غدت قابلة للتصديق والتصور «بفعل شروط الدولة والعمل السياسي» التي لم تكن موجودة في العالم الإسلامي قبل الثورة الفرنسية.
هذه المؤلفات تصف مرحلة حرجة في تحول هذا الكوكب بفعل النسق الاجتماعي - الاقتصادي المستجد، تاريخياً، الذي سمّاه كارل ماركس «المجتمع البورجوازي»، وكان أول من أدرك منطوياته الثورية على الصعيد العالمي. ويبدأ التاريخ الذي أتناوله هنا بالاختراق المزدوج الحاسم الذي وقع في أواخر القرن الثامن عشر، والمسمّى «الثورة الصناعية» في بريطانيا. وهي التي مهّدت الطريق للنمو الاقتصادي الرأسمالي، وللتغلغل العالمي، وللثورة السياسية الفرنسية - الأميركية التي طرحت نموذجاً مثالياً متقدماً لمؤسسات المجتمع البورجوازي. وقد تحددت الملامح العامة لتاريخ المئتين والخمسين سنة الماضية جراء الآثار العالمية المتزايدة لهذا النسق، وبنمطه المتميز بالتنمية من خلال عدم الاستقرار، وبفترات متتالية من النمو السريع الذي يؤدي الى وقوع الأزمات، وإلى إعادة الهيكلة، وإلى الثورة في بعض الأحيان. وقد كان حجم النمو العالمي لهذا النسق متواضعاً في القرن التاسع عشر، ولم تعترضه، بالمقارنة مع مقاييس لاحقة، اي تحديات. والحقبة التي تلت عام 1914 هي التي أثبتت إمكانية خلق التصدع والزعزعة في العالم. وهذه المرحلة من الأزمات، والانهيارات، وإعادة الهيكلة، هي موضوع كتاب التاريخ الرابع الذي وضعته بعنوان عصر التطرف.
اصطدام توسعين
لم يكن ممكناً قيام نظام عالمي، بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا في فترة كولومبوس وماجلان، عندما قام التجار وقادة الحملات الوافدة من «العالم القديم» في أوراسيا وأفريقيا باكتشاف ما يسمى «العالم الجديد» في نصف الكرة الغربي، وغزوه. وعندما تم الدوران حول الأرض بحراً. وعلى مدى أربعة قرون ونصف قرن منذئذ، هيمنت على التاريخ تطورات اقتصادية وسياسية وثقافية وفكرية نابعة من أوروبا. وترابط التغلغل الاقتصادي والغزو السياسي اللذان مارستهما حفنة من الأقطار الأوروبية، ثم مارسته، بعد سقوط تلك البلدان، الولايات المتحدة الأميركية، وهي دولة أقامها المستوطنون الأوروبيون، واستلهمت التراث الأوروبي. وخلال القرن العشرين، انتهت الحقبة الأوروبية في تاريخ العالم. ويبدو، في مستهل القرن الحادي والعشرين، ان استمرار هذه الحقبة، برعاية الولايات المتحدة، لن يدوم طويلاً.
هذه المؤلفات تقدم صورة عامة لتاريخ العالم منذ «الثورة المزدوجة»، فإن تغطية المناطق المختلفة في العالم كانت متفاوتة جداً. وقد أوضحتُ اسباب ذلك في مقدمة عصر الثورة. ومع ذلك، فإن من المحبذ ان نتحدث في هذا الإصدار لجمهرة الناطقين بالعربية، في شكل محدد، عن دور منطقتي المغرب والشرق الأوسط، والعالم الإسلامي بصورة عامة، في الفترة التي تبدأ أواخر القرن الثامن عشر، وقد استشرفنا عدداً من هذه الموضوعات في مواضع عدة من عصر الثورة.
ارتبطت المنطقة الوسطى من العالم الإسلامي، وهي التي احتلتها الامبراطورية العثمانية أواخر القرن، بشبكة من الوشائج مع أوروبا، سواء من طريق التجارة أم من طريق الغزو. وكان محتماً أن تمر التجارة بين الغرب والشرق الأقصى عبر هذه المنطقة. وعلى مدى ألف عام، كان الغزاة يأتون من الشرق، لا من الغرب. كانوا، منذ القرن السابع، ينتسبون الى شعوب وحكام ممن اعتنقوا الإسلام. وبحلول أواخر القرن الثامن عشر، كانت آخر تلك القوى الشرقية الغازية، وهي الامبراطورية العثمانية، تعاني ضعفاً واضحاً، داخلياً وخارجياً، تحت وطأة الضغوط التي مارستها عليها الامبراطوريتان الروسية والنمسوية، وكانت تتراجع في أوروبا وشمال البحر الأسود، لكن المناطق غير الأوروبية التي يقطنها سكان مسلمون اساساً لم تتعرض قط للاحتلال من جانب حكام غير مسلمين، باستثناء الغزوات الصليبية القصيرة نسبياً.
وقد اصطدم توسع الأوروبيين الاقتصادي والعسكري بعالم إسلامي كان لا يزال يمر بمرحلة من التوسع المستمر، ولا سيما في افريقيا والمناطق الوسطى والجنوبية الشرقية من آسيا. إلا ان هذا العالم كان يعاني نزاعات داخلية. ومن الوجهة السياسية، كانت القوى المركزية للامبراطوريات العثمانية والفارسية والمغولية، قد اندثرت أو أوشكت على الاندثار. وراحت حركات إصلاحية دينية في الهوامش الخارجية للحضارة الإسلامية، مثل الوهابية في الجزيرة العربية، والسنوسية في ليبيا، والمريدية في القوقاز، والحركة الجهادية بزعامة عثمان دون فوايو في شمال نيجيريا، تدعو للعودة الى الإسلام النقي، وسرعان ما أخذت تذكي المقاومة ضد الاعتداءات الأجنبية.
كان للتحولات المثيرة في أوروبا أثر مزدوج على العالم الإسلامي، إذ إنها أذكت روح المقاومة والإصلاح في آن معاً. وقد اصبح الإسلام، من جهة، قوة لحشد المقاومة ضد غير المؤمنين الذين غدوا الآن في موقع يمكّنهم من غزو أراضي المسلمين واحتلالها، سواء من الروس شمال البحر الأسود وشرقه، أو من جيوش فرنسا الثورية التي وصلت الى مصر وسورية، واستعادت النظام الملكي الفرنسي الذي سيطر على الجزائر. (وفي تلك الأثناء، كانت الصيغة البريطانية التي جمعت بين التجارة والرفاه والديبلوماسية تؤسس وتوسع الحكم البريطاني في الإقليم، على أنقاض امبراطورية المغول المتهافتة). ومن جهة أخرى، أظهر التفوق الغربي قوة الأفكار وأساليب العمل الغربية والحاجة الى التعلم منها. وقد تجسد ذلك، لحسن الحظ، في الثورة الفرنسية، وهي النهضة الأعظم الأكثر تأثيراً على الصعيد العالمي في ذلك العصر. كما انها، بالتأكيد، أول حركة للأفكار الأوروبية تترك آثارها على العالم الإسلامي، لأنها لم تعد تمثل نزعات دينية في المسيحية الغربية.
وفي القرن التاسع عشر، كانت تأثيرات الإصلاح هي الأعمق وقعاً في مصر التي حققت ما يشبه الاستقلال عن الامبراطورية العثمانية في عهد محمد علي (أنظر الفصل التاسع من عصر الثورة، والفصل السابع من عصر رأس المال، والفصل الثاني عشر من هذا الكتاب). وفي عهده، ومن خلال الاستعانة بمستشاريه الفرنسيين والإيطاليين الذين استوحوا اتجاهاتهم من الدعاة الثوريين حتى من اوائل الاشتراكيين، اصبحت مصر أول دولة إسلامية تدخل مرحلة التحديث بصورة منظمة، وأول دولة غير أوروبية تسعى الى سلوك سبيل التحديث للخروج من التخلف الاقتصادي. وقد احتفى محمد علي بالتصنيع، وبالتقانة الغربية، وبالإنتاج الذي يستهدف التصدير الى أسواق (غربية)، وعكف على إعادة تنظيم الإدارة والتعليم والاقتصاد، وفرض سيطرة الدولة على المؤسسات الدينية في بلاده، وتصدى لمساعي الوهابيين للسيطرة على مكة والمدينة. واكتسبت مصر، البنية التحتية للمجتمعات الحديثة، وعناصر النخبة الاقتصادية الجديدة العازمة على التحديث، بمن فيها المسلمون والمسيحيون واليهود، والوافدون من انحاء العالم. وقدمت هذه النخبة، في ما بعد، الدعم لأوائل الدعاة الذين نادوا بتحديث الإسلام في الشرق الأوسط، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وطرحت مفهوماً علمانياً لمجتمع مصري مستقل. وقد ظلت مصر، تحتل مكان الصدارة في مساعي التحديث، منذ انتفاضة الضباط التقدميين بزعامة عرابي عام 1881 لإقامة حكومة دستورية، وحتى بعد ثورة الضباط الأحرار وجمال عبدالناصر عام 1952.
وبما ان مصر، بثروتها الزراعية وموقعها الاستراتيجي، وقعت ضحية القوة الاستعمارية الاقتصادية العسكرية المتفوقة، فقد اتخذت موقع الريادة في معاداة الاستعمار، وأصبحت (هي وإرلندا) أول دولتين تابعتين تُرغِمان الامبراطورية البريطانية على التراجع عام 1922. إن نظرة استرجاعية لأحداث الماضي تدلنا إلى ان الأثر الإصلاحي لعصر الثورة في الأجزاء الرئيسة للامبراطورية العثمانية كان أكثر عمقاً. غير ان ذلك لم يكن ظاهراً على هذا النحو في القرن التاسع عشر، فقد بدأ الإصلاح مبكراً في عهد السلطان سليم الثالث (1789 - 1807)، الذي أدرك الضعف الواضح الذي كانت الدولة العثمانية تعانيه في وجه التوسع الأوروبي، على رغم ان التحالف بين هيئة العلماء والقوات الانكشارية وضع نهاية لحكمه. وقد أحيا محمود الثاني (1807- 1839) هذا البرنامج الإصلاحي الذي طرح، في صور عدة، قضية إعادة التنظيم، أو ما سمّي «التنظيمات» التي انتشرت بعده في أوساط البيروقراطيين والمفكرين الساعين الى التحديث حتى عام 1876، مع انها لم تترك غير أثر قليل على الناس. وعلى رغم ذلك، استمر التفكك في الامبراطورية العثمانية، بفعل آثار التمرد في الأقاليم، والقوة العسكرية الأجنبية. ومع نهاية القرن التاسع عشر، كانت الامبراطورية العثمانية فقدت كل توابعها الافريقية، وأكثر توابعها الأوروبية، وقدراً كبيراً من سيطرتها على الشرق الأوسط الذي ظل عثمانياً بالاسم فحسب. كما انخفض عدد سكانها بأكثر من الثلث في مرحلة تميزت بالنمو الديموقراطي. وفي عهد السلطان الطاغية الذي أخذت سلطته بالتضاؤل، مع انه اعتمد على الدعم الإسلامي، قامت حركة الاتحاد والترقي (التي عُرفت باسم «تركيا الفتاة») بحشد تحالف بين الساخطين في اوساط العسكريين والمدنيين، وتولت، في أعقاب الثورة الروسية الأولى، زمام الحكم عام 1908. (أنظر الفصل الثاني، القسم الرابع، من هذا الكتاب)، ومن نتائج ذلك ان حركة «تركيا الفتاة» كانت، خلافاً لمحاولات الإصلاح الإسلامية السابقة، علمانية بصورة لا هوادة فيها. وواقع الأمر ان الثورة التركية بزعامة مصطفى كمال (أتاتورك) استطاعت، تحت تأثير الحرب العالمية وبعدها الثورة الروسية، أن تحول ما تبقى من الأراضي العثمانية الى دولة قومية حديثة علمانية فعالة اتحد سكانها بعد ذلك، لا بصفتهم مسلمين يحكمون مجموعة من الملل من ديانات أخرى، ويتسامحون معها، بل باعتبارهم أتراكاً يتمتعون بالوعي القومي (غير المتسامح قومياً).
وفي عهد أتاتورك كانت تركيا، ومثلها الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي آنذاك، تمثل نموذجاً متطرفاً لنخبة من المصلحين الذين فرضوا في العالم الإسلامي التحديث العنيف المغاير للتقاليد والإسلام. وليس واضحاً إطلاقاً ما اذا كان شكل التحديث الذي انتهجه اتاتورك سيحالفه النجاح، أو أنه سيكون مثالاً يُحتذى في البلدان الأخرى ذات الغالبية المسلمة. بيد ان هذه التساؤلات، شأنها شأن عهد أتاتورك نفسه، تتصل بتاريخ القرن العشرين.
ولا بد من ان نتطرق، باختصار، الى تيار تحديثي ثالث في الشرق الأوسط، هو حركة الإحياء الثقافي في المناطق الواقعة الى الشرق من سواحل البحر الأبيض المتوسط، ولا سيما لبنان وما حوله. وحيث ان المنطقة كانت تضم جماعات دينية متعددة، وأنها شهدت، بالمصادفة، تدخلاً كبيراً في المجالات الديبلوماسية والتعليمية من جانب القوى الأوروبية التي تذرعت بمزاعم دينية، فإن اللغة العربية، لا الإسلام، هي الوسيلة التي جمعت ووحدت الصفوة المحدّثة التي كانت تضم النخب التجارية الدينامية. وربما كان لبنان هو البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي هاجر أبناؤه بأعداد كبيرة ناجحة جداً من الوجهة الاقتصادية في العهد العثماني الى مختلف القارات: الى الولايات المتحدة اعتباراً من خمسينات القرن التاسع عشر، والبرازيل من عام 1880، وغربي افريقيا من عام 1892. ولا يزال يطلق عليهم اسم «توركوس - الأتراك» في أميركا اللاتينية. وفي هذه المنطقة، ولدت القومية العربية، بل القومية الجامعة لكل العرب، والتي ينتسب إليها كل من المسلمين والمسيحيين ومن لا شأن لهم بالدين. وقد تصدت، أول الأمر، للحكام العثمانيين، ولكنها، خلال فترة السيطرة البريطانية - الفرنسية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، أبدت مقاومة متزايدة ضد القوى الامبريالية الأوروبية. وقد داخلتها، عند تعاظمها في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، بعض الأفكار الاشتراكية، غير ان إسهامها الرئيس، قبل عام 1914، كان في الميدان الثقافي.
موقع استراتيجي
كيف نستطيع ان نلخص الآثار التي خلفتها تطورات القرن التاسع عشر على العالم الإسلامي؟ لقد اصبح الموقع الاستراتيجي للشرق الأوسط غاية في الأهمية في زمن الثورة الفرنسية، وبقي كذلك منذ ذلك الحين. وقد تجلى ذلك في دوره خلال الحربين العالميتين. وقد تعزز هذا الدور بأهمية النفط المركزية للاقتصادات الصناعية الحديثة، وأدى ذلك، إضافة الى انهيار الامبراطوريات العثمانية والإسلامية القديمة الأخرى، الى مواجهة مباشرة بين عالم إسلامي واثق في نفسه، متزايد الاتساع من جهة، والامبراطوريات الأوروبية المتعدّية التي سبقت ما حدث لأجزاء أخرى من العالم غير الأوروبي. وعلى رغم ذلك، فإن غالبية العالم الإسلامي، الواقعة غربي الهند على الأقل، بقيت خارج مجال الحكم الاستعماري الغربي حتى القرن العشرين، مع ان المناطق التي ظلت مستقلة، من الوجهة الفنية، كانت إما ضعيفة أو خارج نطاق تيار التطورات الرئيسة في القرن التاسع عشر، أو كليهما.
ومن جهة أخرى، فإن الهيمنة أو السيطرة الأوروبية خلال تلك المرحلة المبكرة من العولمة الاقتصادية لم تترك أي آثار ملموسة على أكثرية سكان (الأرياف) في تلك المناطق، عدا القمع الذي يمارسه حكامهم المحليون. وكان الحكام الغربيون يميلون الى معاملة الدين الإسلامي باحترام، بسبب قدرته الواضحة على تعبئة الجماهير وإذكاء الروح القتالية فيها. وباستثناء بعض الظروف الخاصة (مثل الغزو العسكري المباشر، كما حدث في الجزائر)، فإن الحوافز لمقاومة التوسع الأوروبي كانت ضعيفة، وقد خفف منها شعور الأقليات السياسية التي يمثلها البيروقراطيون المستنيرون، من نخب الضباط والمدنيين على السواء، بأن المقاومة ستبوء بالفشل، ما لم يكن ثمة تحديث مسبق لمجتمعاتهم التي كانت تغطّ في سبات عميق. وقد اكتسب التحديث صفة الاستعجال والإلحاح بفعل تزايد العولمة في عصر الامبراطورية، وتعاظم ضغوط الأوروبيين الاستعمارية، والأزمة الختامية للامبراطورية العثمانية. وفي تلك المرحلة التي تميزت بروح الإسلام المحافظة، والافتقار الى الوعي السياسي في أوساط الجماهير الورعة، أخلى دعاة تحديث الإسلام السبيل لدعاة الإصلاح الراديكالي على النهج الغربي من جانب الأقليات المستنيرة التي كانت تتعامل بصورة فوقية مع شعوبها المتشبثة بالتقاليد. ولم يكن من قبيل المصادفة ان ايديولوجيات التحديث الغربية التي تبنتها الطلائع المستنيرة، وفرضتها من أعلى، أصبح لها نفوذها في العالم الإسلامي، مثلما كان لها تأثيرها في انظمة الحكم غير الأوروبية التي كانت تسعى الى التخلص من التخلف الاقتصادي. ومن هذه الإيديولوجيات فلسفة أوغست كونت الوضعية (التي كانت لها أصداء في البرازيل والمكسيك، وكذلك في الامبراطورية العثمانية)، وتراث السان سيمونيين في مصر.
استبدلت هذه التيارات في العشرينات بنوع جديد من الإيديولوجيات الطليعية المستوحاة من الثورة الروسية. وقد استحدث القرن العشرون عنصرين أساسيين جديدين في تاريخ العالم الإسلامي هما: انهيار القوى والامبراطوريات الأوروبية، والتعبئة السياسية للجماهير المسلمة الآخذة بمزيد من التحضر. ويقع هذان العنصران خارج النطاق الزمني لهذه المؤلفات الثلاثة: «عصر الثورة»، «عصر رأس المال»، و «عصر الامبراطورية». وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، لم يكن هذان العنصران ظاهرين للعيان.
* مؤرخ ومفكر بريطاني، ولد في الاسكندرية عام 1917 وعاش في فيينا وبرلين قبل ان يستقر في لندن. والنص مقدمة خاصة وضعها للترجمة العربية لكتابه «عصر الامبراطورية» الصادرة عن المنظمة العربية للترجمة في بيروت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.