بغية فهم خلفيات الثورة في مصر، أصدرت دار «اكت سود» الباريسية (سلسلة «سندباد») كتاباً ضخماً بعنوان «مصر في الوقت الحاضر» أشرف على كتابته الباحثَان الفرنسيان فينسان باتيستي وفرنسوا إيرتون وشارك في تحريره أربعون باحثاً غربياً وعربياً. يطمح هذا الكتاب الذي يقع في نحو 1200 صفحة إلى سد ثغرةٍ داخل مشهد النشر الفرنسي نظراً إلى أن الكتاب الأخير الذي تناول بهذه الشمولية الوضع المعاصر لمصر وضعه عدد من الباحثين الجامعيين عام 1977 بعنوان «مصر اليوم – 1805-1976». بالتالي، كان لا بد من التوقف ملياً عند نتائج التحولات التي شهدها هذا البلد خلال فترة الخمسة وثلاثين عاماً الإخيرة، ومن محاولة الإجابة على مجموعة أسئلة ملحّة، أبرزها: ما هي اليوم الطموحات الجيو سياسية لمصر؟ وهل لا تزال «أم الدنيا» المنارة الثقافية للعالم العربي؟ وكيف يواجه أبناؤها مسألة تضاعف عدد سكانها خلال تلك الفترة أو مسألة عبورها من الاقتصاد المؤمَّم مع عبد الناصر إلى اقتصاد السوق داخل إطار العولمة؟ وكيف تطوّرت الحياة الاجتماعية فيها وأي مكانة يحتل العامل الديني؟ وكيف يتم التحضير لخلافة حسني مبارك؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة، يقارب الكتاب الحقول الرئيسة للواقع الاجتماعي المصري عبر معالجة متتابعة لمسائل الجغرافيا والبيئة والسكان والسياسة والاقتصاد والمجتمع والدين والفضاء الإعلامي والحياة الثقافية. لكن هاجس الشمولية على المستوى الموضوعي يقابله مساهمات داخل الموضوع الواحد لا تتوق إلى الشمولية، المستحيلة في كتابٍ واحد، بقدر ما تتوق إلى استخلاص الخطوط العريضة والجوانب البارزة في كل موضوع. وهذا ما يحوّل الكتاب إلى حصيلةٍ متماسكة تتجاوب فيها الفصول في ما بينها مانحةً إيانا المعلومات والتحليلات الضرورية لفهم مصر اليوم. خلف هذه الفصول الغنية تقف إذاً مجموعة كبيرة من الباحثٍين الجامعيين من ضفتي المتوسط، كل واحد متخصص بالموضوع الذي يعالجه ويملك معرفة عميقة ومباشرة بمصر لعيشه فيها خلال سنوات طويلة. وجميع هؤلاء بذلوا جهداً قيّماً لعدم حصر مساهمتهم في أرضية موضوعهم بل لتجاوزها ومعانقة مجموع الأسئلة والجوانب التي يطرحها هذا الموضوع، فتمكنوا في ذلك من ترجمة، بعباراتٍ واضحة، واقعٍ معقّد ومتحرّك تطلّب فهمه جمعاً وتحليلاً لمعطيات غزيرة يصعب أحياناً الوثوق بها أو بلوغها، كما تطلّب استقصاءاتٍ عميقة على الأرض وإلفة كبيرة مع لغة مصر وحياتها الاجتماعية وتقاليدها الإدارية. وتتوزع مساهمات هؤلاء على ستة أقسام، يتناول أوّلها موضوع الديموغرافيا وعملية النمو المذهل لعدد سكان مصر خلال القرن العشرين، ثم مسألة تطور وتنوع جغرافيتها المسكونة أو المزروعة، فيتبين لنا كيف تهدّد الكثافة السكانية بيئة مصر وتقود إلى انحسار الاختلافات التي تميّز عادةً الفضاء المديني عن الفضاء الريفي، وبالتالي كيف بلغت بعض القرى المصرية بنسبة سكانها وإعمارها حجم مدنٍ متوسطة الحجم في أماكن أخرى من العالم. ويقارب القسم الثاني من الكتاب التطوّرات السياسية في أبعادها الخارجية والداخلية فيروي لنا التاريخ السياسي لمصر منذ ثورة 1952 وتاريخ علاقاتها الدولية مبيّناً طبيعة الدولة المصرية واللاعبين فيها ومستكشفاً أسباب ديمومة نظام مبارك سنواتٍ طويلة قبل سقوطه مؤخراً، من دون إهمال السلطة المحلية ولاعبي المجتمع المدني القدماء والجدد (نقابات ومنظمات غير حكومية). ويشكل التواري البطيء والجزئي للإقتصاد الموجَّه في مصر، مع سياسة «الانفتاح» والتحرر الإقتصادي، موضوع القسم الثالث من الكتاب الذي يتفحص في هذا السياق القطاع الزراعي والصناعي والمالي والتجاري والسياحي، إلى جانب سوق العمل والتوزيع غير المتكافئ للمداخيل وديناميكيات الفقر وتطوّر أنماط الاستهلاك، خصوصاً الغذائية. ونظراً إلى غنى الحياة الاجتماعية في مصر وغزارة بنيات الواقع اليومي، اضطر باحثو القسم الرابع من الكتاب إلى التركيز على ممارسات ومؤسسات تشكّل، في نظر المصريين أنفسهم، رهانات أساسية، كتلك التي تتعلق بالصحة والتربية والعدالة، وإلى التوقف ملياً عند بعض المجموعات الدونيّة التي انبثقت حديثاً كلاعبين وكفئاتٍ اجتماعية تتمتّع بممارساتٍ وتمثيلاتٍ خاصة، كالشباب ومشاكلهم (خصوصاً العثور على عمل أو منزل) ولكن أيضاً النصف المؤنث للشعب المصري بظروف حياته وحقوقه واندماجه في اقتصاد البلد. ولأن البُعد الديني الظاهر في الحياة الاجتماعية المصرية يحيّر النظرة الغربية ويفتنها أو يخيفها، لكنها تبقى غالباً مختزلة، يستكشف باحثو القسم الخامس من الكتاب بدقةٍ تحليلية الممارسات والبنيات الدينية المصرية في تنوّعها، أي «الشعبية» و «الرسمية» و «الراديكالية» في الإسلام والمسيحية. أما القسم السادس والأخير من الكتاب فيتناول الوضع الثقافي في مصر والأسباب التي أدّت إلى تراجع دور هذا البلد كمنارة العالم العربي الثقافية الأولى، باعتراف المثقفين المصريين أنفسهم (كتاب وفنانين ومفكرين) الذين باتوا ينظرون إلى ثقافتهم بمرارةٍ وحنينٍ إلى الفترات السابقة. ومع ذلك، يبيّن لنا باحثو هذا القسم غنى الإنتاج الثقافي المصري المعاصر وغزارته، بغض النظر عن قيمته، ومزاحمة وسائل الإعلام الحديثة الركائز الإعلامية التقليدية، مستعرضين أوضاع الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية، ثم حال السينما والموسيقى والأدب، قبل التوقف عند النقاشات الفكرية ووجوهها ورهاناتها. ولا يفوت مؤلفو هذا الكتاب الضخم بقاء تحليلاتهم وزوايا معالجتهم لمواضيعهم داخل إطارٍ أكاديمي - فكري لا يأخذ في الإعتبار الإلتزام العملي للمصريين في سلوكهم وأفعالهم، وبالتالي الطاقة المذهلة التي يبدونها لتدبر أمورهم داخل حياةٍ يومية شاقة في غالب الأحيان؛ طاقةٌ تجلت خصوصاً في الثورة الإخيرة التي حقّقوها وقلبوا فيها نظام مبارك الفاسد، وتتطلّب دراستها كتاباً آخر ذا جانب إتنوغرافي يكمّل الكتاب الحالي.