أي فرق بين إطاحة الحكومة وتعليق البرلمان ومعاودة ترتيب صلاحيات السلطة، عبر استفتاء شعبي؟ وبينها حين تعتمد المجازفة وتأتي على خلفية انتفاضة شعبية؟ في كلتا الحالتين يكون المطلوب هو إحداث التغيير الذي ينشده الشارع. وكلما انطبع الرهان بالهدوء والاتزان والتوازن كلما أفسح في المجال أمام تصحيح الخطوات الانفعالية والمتسرعة، فالتجارب الإنسانية تتأسس على بعضها والفراغ الذي تخشاه الطبيعة يضفي على مبادرات الإصلاح في إطار الاستمرارية مزيداً من فرص الواقعية والنجاح. مشروع الدستور الجديد في المغرب ذهب إلى أبعد الحدود في إقرار منهجية بديلة، تبدو مثل الخط المستقيم الذي يختزل المسافة بين نقطتين. وعوض أن يكون الشارع مدعواً للتظاهر والاحتجاج ضد ما يعتبره حيفاً أو سوء تدبير لقضايا الشأن العام، استبدل هذه الصيغة باختيار يوم اقتراع مصيري رهنه بنتائج الاستفتاء. غير أن الجدل الذي أثير حول الوثيقة الدستورية في أبعادها القانونية والسياسية والثقافية كان مطلوباً أكثر من أي نقاش آخر، من جهة لأنه ينطلق من مرجعية أحيطت بضمانات المشاركة الشعبية الواسعة النطاق في بلورة معالم الرؤى الإصلاحية، ومن جهة ثانية لأنه ترك هامش الاختيار واسعاً، سواء بالنسبة الى الذين اقتنعوا بمزايا التصويت لفائدة المشروع، أم أولائك الذين صوبوا نظراتهم على نصف الكأس الفارغ. فالديموقراطية الحقيقية تكاد تشبه الخطوات الأولى للطفل الرضيع، إذ يتعين رعايته باهتمام أكبر حين يتعلم المشي والنطق والتفكير إلى أن يصبح راشداً. لا توجد معايير موحدة ومتشابهة في تكييف سن الرشد الديموقراطي، غير أن هناك اتفاقاً يفيد بأن الاحتكام إلى الإرادة الشعبية هو صلب الممارسة الديموقراطية. وكما أن حقوق التظاهر والاحتجاج تكون مصانة في النظم الديموقراطية التي لا تخشى الجهر بالحقائق، فإن امتداداتها تكون أكثر أثراً عبر المشاركة الشعبية، أي ممارسة السيادة عبر الاستفتاء. ويبقى فقط الاختيار بين أقرب الطرق أو أكثرها تعرجاً للوصول إلى الهدف. مشروع دستور جديد في أي بلد ليس نهاية. إنه البداية التي تتفرع عنها ومن حولها ممارسات جديدة، أكان ذلك على صعيد تحديد صلاحيات السلطات والفصل بينها، أم من خلال اعتماد مرجعية تحكيمية تصوغ التزامات الدولة في علاقاتها مع مواطنيها وانتسابها الجغرافي والقومي، إلا أن المؤسسات المنبثقة من هذه المرجعية، حكومة وبرلماناً وآليات للحكم، هي ما يجعل للديموقراطية أرجلاً تقف وتمشي عليها. ومن هذا المنطلق يأتي الترابط بين إقرار دستور جديد وبناء مؤسسات منتخبة جديدة. كان في إمكان العاهل المغربي الملك محمد السادس أن يطيح حكومة رئيس الوزراء ويعلق البرلمان ويدعو الى انتخابات سابقة لأوانها، فهذا أسلوب قد يجد صداه في الشارع الملتهب، على خلفية الانتفاضات الشعبية في دول عربية عدة. إلا أنه اختار بدل ذلك طرح مسودة دستور عهد إلى خبراء مغاربة وزعامات سياسية ونقابية من مختلف المشارب، إضافة إلى مكونات المجتمع المدني وتنظيمات الشباب، صوغ خطوطه العريضة وبالتالي حقق هدفين: الأول أن يصبح المغاربة في المعارضة والموالاة شركاء أساسيين في وضع دستور البلاد وفق منهجية المشاورات المفتوحة تحت سقف الثوابت التي لا يجادل فيها أي طرف، (الدين والنظام السياسي والوحدة الترابية والخيار الديموقراطي)، لكن ضمن ترك الحرية للناخبين في قول الكلمة الفصل. الثاني: ربط الإصلاحات الدستورية بمستويات متقدمة من الممارسات التي تحظر تمييع المشهد السياسي وتتوخى الشجاعة في نقل صلاحيات الدولة المركزية إلى الهامش وتشكيل مؤسسات موازية لتعزيز أوضاع حقوق الإنسان وضمان استقلال القضاء وإعلان الحرب على مظاهر الفساد والرشوة والانحراف واستغلال النفوذ. بيد أن الأهم في هذه الصيرورة الهادئة التي تعتمد منطق الاقتناع والإقناع أن صفحة جديدة فتحت في كتاب التجربة المغربية، ولا شك في أن الناخبين الذين سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع في الاول من تموز (يوليو) المقبل يضعون في الاعتبار أنهم لا يصوتون على الوثيقة الدستورية فقط وإنما على رزمة إصلاحات انطلقت بتؤدة وتوازن. كونها نقلت معركة التغيير من الشارع إلى صناديق الاقتراع.