لكل بلد في الشرق الأوسط نصيبه من التحديات والمزايا، ولا شك في أن صياغة الدستور المصري ستشكل تجربة مختلفة تماماً عمّا حدث في العراق عام 2005 (أقلّه إذ لا يتحتم على مصر أن تعاني من عواقب أي احتلال عسكري أجنبي). غير أن أوجه الشبه بين البلدين (غير تلك البديهية المتصلة بالروابط اللغوية والثقافية والدينية والتاريخية) تكفي للسماح لهما بالاستفادة من خبرات بعضهما بعضاً في ما يتعلق ببعض القضايا المحددة. يتشارك كل من مصر والعراق في احتياجات أساسية يمكن تلبية بعضها، وإن جزئياً، من خلال صياغة دستور ناجحة. غير أن التجربة العراقية فشلت فشلاً ذريعاً بهذا المعنى ولا بدّ لمصر من تقويم تلك التجربة واستخلاص الدروس منها، بغية تفادي تكرار الأخطاء المميتة نفسها. استحالة الجدول الزمني أكثر بند إشكالي في الدستور الانتقالي المصري هو الجدول الزمني المحدد لصياغة الدستور الدائم. فالمادة 60 تنصّ على وجوب إنجاز صياغة الدستور خلال ستة أشهر وعرضه للاستفتاء بعد 15 يوماً من إعداده، من دون أن تنص على إمكانية تمديد هذه المهلة الزمنية. وتجدر الملاحظة أن سلطات الاحتلال الأميركية في العراق فرضت أيضاً مهلة ستة أشهر على واضعي الدستور العراقي، علماً أن الهدف الرئيس من ذلك كان طمأنة الولاياتالمتحدة. في المقابل، ثمة تجربة نقيضة وهي العملية الدستورية في جنوب أفريقيا، التي تُعدّ من أنجح العمليات في التاريخ الحديث، والتي استمرت ككلّ نحو 7 سنوات. لذا، فأقل ما يمكن قوله هو أننا نستغرب رؤية مصر تحاكي، من تلقاء نفسها، عملية دستورية عراقية تم الاعتراف بفشلها على نطاق واسع. يُعرف عن مصر تمتّعها بطائفة غنية من العلماء الدستوريين والقانونيين القادرين على الإسهام بخبرتهم، ولا شك في أن الكثير منهم سيساهم إلى حد كبير في صياغة الدستور الجديد. غير أنه ما من ضمانات كثيرة تؤكد أن أياً من هؤلاء العلماء سيتمكن من أداء دور رسمي في عملية الصياغة بحد ذاتها. فنظراً للظروف السائدة، ثمة احتمال كبير، كما حصل في العراق، بأن يغلب على لجنة صياغة الدستور حضور أعضاء معينين تعييناً سياسياً، ويكونوا ذوي خبرة محدودة أو معدومة في القانون الدستوري. ونظراً أيضاً لطبيعة النظام السابق، قد يكون بعض قادة مصر المستقبليين قد قضوا فترة طويلة من الزمن إما خارج الدولة تماماً، أو الأسوأ من ذلك، في السجن أو المنفى. وعلى رغم قدرة واضعي الدستور على التعلم أثناء أدائهم المهمة، فمن الواضح أن ستة أشهر ليست بالمدة الكافية، ممّا يزيد من احتمال إنشاء إطار دستوري غير فعال أو غير مكتمل. لا شك في أن مصر تستحق انتقالاً سريعاً إلى ديموقراطية فاعلة، إلا أنها تحتاج أيضاً إلى المزيد من الوقت لصياغة دستورها الدائم بعناية. تصميم الأطر المؤسسية لا بدّ لأي صياغة لدستور جديد في أي جزء من العالم أن تنطوي على محاولة لفهم طريقة عمل الإطار المؤسسي للبلد فهماً صحيحاً. فحتى الدساتير التي تولد من رحم الثورات الشعبية لا يسعها توقّع بدء صفحة جديدة تماماً، فهي تحتفظ بعدد كبير من المؤسسات القائمة. كما أن التسلسل الإداري الذي تتبعه هذه المؤسسات وطرق عملها وغيرها من التقاليد تؤثر في آلية عمل الدستور الجديد. نتيجة لذلك، يمكن واضعي الدستور - ويجدر بهم - السعي إلى فهم وتحديد المؤسسات الأكثر كفاءة وتلك التي تعاني من الاختلال، من أجل تحديد كيف يمكن الدستور الجديد أن يساهم في تحسين الإطار الحالي. إضافة إلى ذلك، يمكن التغييرات التي تطرأ على هيكل الحكم بعامة في البلاد أن تؤثر في طريقة عمل مؤسسات معيّنة، وإن لم تكن هذه المؤسسات مذكورة تحديداً في الدستور نفسه. في ظلّ غياب القدر الكافي من التبصر في ما يتعلق بهذه القضايا، أي تغييرات ستؤدي على الأرجح إلى نتائج غير متوقعة، الأمر الذي يستحيل أن يكون إيجابياً. نظراً الى تاريخ مصر في الفترة الأخيرة، لا شك في أن هذه العملية ستستغرق الكثير من الوقت لكي تُنفّذ بنجاح. لقد جاءت الثورة جزئياً نتيجة لانهيار جزئي في الدولة والمجتمع المصريين، ناجم إلى حد كبير عن حالة الجمود التي كرّسها الحزب الوطني الديموقراطي برئاسة حسني مبارك. غير أن هنالك الكثير من المؤسسات التي كانت تضطلع بمسؤولياتها على نحو يرضي المصريين. فما سرّ نجاح بعض هذه المؤسسات حيث فشلت مؤسسات أخرى، وما الذي يمكن الإطار الدستوري الجديد فعله لتشجيع نشوء مؤسسات أخرى ناجحة في المستقبل؟ أي شكل من أشكال الرقابة يجب اتباعه لرصد أداء مؤسسة معينة، وأي فرع من الحكومة يجب إفادته بالاستنتاجات؟ تؤمّن الممارسة الدستورية المقارنة الكثير من الإجابات الممكنة عن هذه الأسئلة، ولكن، أياً كان الخيار الذي سترتضيه مصر، لا بد من أن يأتي نتيجة نقاش صريح ومفصل حول أداء المؤسسات المصرية ولا يمكن أن يعتمد كلياً على النماذج النظرية والمقارنة. هذا الجهد سيتطلب حتماً تعاوناً وثيقاً مع عدد كبير من الموظفين العامين الذين يشغلون مناصب عليا ومتوسطة، والذين ينبغي دعوتهم للمشاركة في عملية إعادة تصميم هيكلة الدولة. كما أن هذا الجهد سيتطلب بدوره وقتاً أكثر بكثير من ستة أشهر. في العراق، ونظراً الى المهلة الزمنية القصيرة، لم يكن واضعو الدستور في معظمهم يدركون طريقة عمل البيروقراطية في البلاد في الممارسة العملية. كما أن الوقت لم يكن كافياً للنظر في كيفية تأثير التغيرات العامة في طبيعة الدولة في بعض المؤسسات المحددة. على سبيل المثال، انتقل العراق عام 2005 من نظام رئاسي مركزي خاضع لهيمنة حزب البعث إلى نظام برلماني مع حكومة تضمّ عشرات الأحزاب السياسية. في ظلّ النظام السابق، كان يُنظر إلى ديوان الرقابة المالية في العراق (الذي كان مسؤولاً عن التدقيق في نفقات الدولة، باستثناء بذخ صدام حسين وعائلته طبعاً) على أنه يؤدي دوره في شكل فعال في ظلّ ظروف صعبة. فقد كانت تقاريره تعمّم في أرجاء دولة الحزب الواحد التي كانت تردّ على أي إيحاءات بوجود سوء سلوك «بفعالية لا ترحم» على حد وصف المراقبين المستقلين. أما اليوم، فيلزم الدستور الجديد المطبق منذ عام 2005 ديوان الرقابة المالية بتقديم تقاريره إلى البرلمان، ممّا يعني أنه بات الآن تحت رحمة عشرات الأحزاب السياسية المتنافسة التي غالباً ما تكون إما غير مهتمّة على الإطلاق بتقاريره أو ساعية إلى الاستفادة منها كمجرّد ذخيرة لاتهام خصومها بالفساد. لقد تعرض موظفو الديوان منذ ذلك الحين لعشرات محاولات الاغتيال، كما تُحجب تقاريره عن الرأي العام لأسباب تتعلق بسلامة الموظفين ومخاوف أخرى. لا يزال البرلمان العراقي ومكتب رئيس الوزراء يتصارعان حتى يومنا هذا لتحديد من منهما سيتمكن في نهاية المطاف من السيطرة على الديوان. ليس المقصود هنا أن النظام السابق كان مثالياً من جهة الرقابة (بل العكس هو الصحيح)، أو أنه كان ينبغي على واضعي الدستور العراقي الاحتفاظ بذلك النظام. المقصود هو أن واضعي الدستور ساهموا في شكل واضح في مستويات الفساد الحالية بسبب عدم تنبههم للآثار التي قد تترتب على الرقابة في الدولة نتيجة الانتقال إلى نظام حكم برلماني مع متطلبات منخفضة جداً في ما يتعلق بالدعم الشعبي المطلوب لفوز المرشحين في الانتخابات. في الواقع، ونظراً إلى مهلة الأشهر الستة، لم يكن الوقت كافياً حتى للنظر في إمكانية حدوث شيء من هذا القبيل. ترك المستقبل للسياسيين واللافت أكثر هو الحاجة إلى وضع إطار مناسب لنشاط الأحزاب السياسية. لا شك في أن العملية التي يتم من خلالها تقرير القواعد المفصلة المتعلقة بالشفافية المالية هي عملية صعبة وتستغرق وقتاً طويلاً. وفي بلدان مثل مصر والعراق، حيث الديموقراطية القائمة على تعدد الأحزاب والشفافية المالية الحقيقية كانت لا تزال حتى هذا التاريخ غير مألوفة على الإطلاق، لا بد من إتاحة بعض الوقت لكي يتمكّن مختلف الأطراف من التكيّف مع القواعد من حيث المبدأ والممارسة. عند طرح مسألة الشفافية المالية للمرة الأولى في الديموقراطيات الناشئة، تميل الأحزاب السياسية إلى ممانعة احتمال إخضاع حساباتها لمراجعات المدققين العامين أو الخاصين، ولا بد من بذل جهد كبير لإقناع الأحزاب السياسية بضرورة مثل هذه القواعد. وأي نقاش في شأن قواعد محددة يكون الأنسب للبلد المعني عندما يأخذ في الاعتبار السياق الخاص بالبلد. يمكن هذه القواعد أن تكون معقدة للغاية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتنفيذها، ولا بد بالتالي من تخصيص الوقت الكافي لضمان التأني في الدراسة والصياغة. وانطلاقاً من الحرص على رؤية مصر تنتقل إلى مجتمع ديموقراطي مكتمل في أقرب وقت ممكن، عمد معلقون كثيرون إلى التغاضي عن أهمية هذه القضايا واعتبارها مسائل ثانوية، بحجة أن لدى مصر في الأصل قواعد للشفافية المالية وأنه يمكن ترك أي تفاصيل عالقة إلى ما بعد دخول الدستور الجديد حيز التنفيذ. لقد تعلّم العراقيون على مضض أنه لا ينبغي السماح للسياسيين بتحديد القواعد التي ترعى عملهم ونشاطهم. على رغم القواعد التي وضعتها الهيئة العليا للانتخابات وهيئة النزاهة في العراق والتي تتطلب شفافية مالية، لا يزال العراق يفتقر إلى آلية تنفيذية فعالة، وهو ما يعتبره كبار مكافحي الفساد أحد الأسباب الرئيسة للفساد في البلاد. كما أن الدستور العراقي يحتوي على بعض القواعد المتصلة بكيفية وإجراء الانتخابات عملياً، مثل تلك التي تنص على أن البرلمان وحده المسؤول عن البت في طريقة إجراء الانتخابات. وكانت النتيجة في العراق، خلال انتخابات عام 2010، الاستمرار في انتخاب المرشحين كجزء من قائمة، مع العلم أن الدوائر الانتخابية كانت كبيرة للغاية لدرجة أنها غالباً ما أدّت إلى انتخاب أكثر من اثني عشر عضواً ضمن الدائرة الانتخابية الواحدة. في النظام الديموقراطي الجديد في العراق، ثمة هوة عميقة قائمة بين السياسيين والمواطنين العاديين، الأمر الذي يطيح شرعية النظام برمّته. مناقشة الحقوق الأساسية لعل الأهم في بعض البلدان مثل مصر والعراق تلك الحاجة إلى إقامة نقاش صريح حول العلاقة بين الدين والدولة. ففي العراق، في عام 2005، نوقشت هذه المسألة في إطار اللجنة الدستورية، إلا أنه لم يتم التوصل إلى حل وسط ضمن المهلة الزمنية المحددة. لذا، فرض مسؤولون أميركيون حلاً يقضي «بعدم جواز سنّ قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام» أو «يتعارض مع مبادئ الديموقراطية». وعلى رغم تعميم مسودة للدستور قبل موعد الاستفتاء، لم يكن الوقت كافياً للسماح للمواطنين بالمشاركة في شكل فاعل في هذه المسألة أو التفكير ملياً بالعواقب المحتملة التي قد تنجم عن الصيغة المعتمدة واقتراح البدائل. لقد صوّت الملايين من العراقيين من دون حتى الاطلاع على المسودة بأنفسهم، كما أن الاستفتاء قدّم كخيار بين النظام والفوضى (ممّا يشبه إلى حد مخيف الخيار الذي يجري عرضه على المصريين في العملية الدستورية الخاصة بهم)، وعلى رغم كل عيوبه، تمت الموافقة على الدستور بغالبية ساحقة. أدى عدم وجود نقاش مفتوح في شأن دور الدين إلى تطبيق هذا الحكم في شكل غير متسق في أنحاء البلاد، مع استنتاج بعض المحافظات بأنه ينبغي أن يؤدي إلى حظر بيع الكحول، الأمر الذي رفضت محافظات أخرى تطبيقه. وفي غضون ذلك، عمد بعض الجماعات المتطرفة إلى التهجّم في شكل متكرر على مكاتب المنظمات المسيحية مع مطالبتها بمغادرة البلاد بحجة أن العراق بات الآن دولة إسلامية، وليس ذلك إلا عاملاً واحداً من العوامل التي أدت إلى تحول العراق إلى دولة أحادية اللون، تشعر فيها الأقليات الدينية بأنها فقدت مكانتها في المجتمع. الأمثلة المبينة أعلاه بعض من الصعوبات التي فرضت على العراقيين بعد فشل العملية الدستورية في عام 2005، وما من سبب يحتّم على مصر تحمّل المآسي نفسها. ينبغي أن تظلّ البلاد على ثقة بأن روح ثورتها ستواصل إرشادها خلال الفترة المقبلة وتتفادى إغراء الاندفاع نحو «العودة الى الحياة الطبيعية» الوهمية. كما ينبغي للثورة إتاحة الوقت اللازم للجنة المسؤولة عن صياغة الدستور لكي تتمكن من النظر ملياً في العملية والتباحث في ما بينها ومع البلد ككلّ، والاستفادة من تجارب الآخرين، حتى وإن كان ذلك يعني الاستفادة من أخطائهم. * محام عضو في نقابة المحامين في نيويورك؛ عمل بين عامي 2005 و2010 مستشاراً في شأن الإصلاح الدستوري والبرلماني والقضائي في العراق.