حين كتب الأميركي، من اصل كندي- فرنسي، جاك كيرواك روايته «على الطريق»، لم يكن النوع الأدبي المعروف باسم أدب الطريق شيئاً جديداً في الحياة الثقافية العالمية، فهذا النوع كان معروفاً منذ أقدم الأزمنة، بل إننا إذا عدنا إلى الملاحم الإنسانية الأولى، من «غلغامش» الى أعمال هوميروس، سنجدها جميعاً منتمية الى أدب الطريق في شكل أو في آخر. ولن نكون في حاجة هنا طبعاً الى ربط النوع السينمائي الذي يحمل بدوره اسم «أفلام الطريق» بذلك النوع، طالما ان الأمر والقرابة المباشرة بديهيان. كل ما في الأمر، هو ان رواية كيرواك نشّطت النوع ودفعت كثراً، من كتاب وسينمائيين، الى تجربة حظّهم فيه. وكان ذلك بالتحديد لأن الزمن كان يسمح بذلك، وذهنية شبيبة العالم وشبيبة أميركا تسمح به ايضاً. ومن هنا، لن يكون غريباً ان يلقى كتاب كيرواك على الفور نجاحاً كبيراً، جعل دُورَ نشر اميركية كثيرة تعضّ اصابعها ندماً إذ رفضت اول الأمر نشْرَ الكتاب، معتقدة أنه لن يجد قرّاءً، إذ كيف – في رأيها - سوف يقبل الناس على قراءة نصٍّ لا يَحدث فيه أيُّ شيء سوى تنقّل شابين من مكان الى آخر ليعيشا كيفما اتفق، مهمّشَيْن لا يأبهان لشيء ولا يأبه بهما أحد؟ دار فايكنغ يومَها كانت الوحيدة التي قبلت ان تنشر الكتاب، بعد اكثر من ست سنوات مضت على إنجاز كتابته، فحققت به أرباحاً طائلة وأعادت عبره تأسيس نوع أدبي. وهذا النوع انتشر منذ ذلك الحين انتشاراً مدهشاً ناقلاً العدوى الى السينما. واليوم، ها هو المخرج السينمائي البرازيلي والتر ساليس، يعمل بدأب على إنجاز فيلم ينتجه له زميله الأميركي الكبير فرانسيس فورد كوبولا، مقتبساً عن الرواية. هنا، لمناسبة إشارتنا الى هذا الخبر السينمائي، لا بد من الإشارة الى ان ساليس لم يكن اول من فكّر بأفلمة «على الطريق» بل سبقه كثر، من بينهم كوبولا نفسه تحديداً، غير أنهم كانوا جميعاً سرعان ما يتراجعون، معلنين استحالة تلك الأفلمة لنصّ شديد الصعوبة لا يحمل أحداثاً يمكن ان تُحَوَّل الى لغة بصرية جذابة. ساليس رأى من ناحيته، ان المسألة غير ذلك، وان اللغة البصرية في «على الطريق» موجودة، في انتظار من يكتشفها، وهو إذ رأى ذلك، كان بالطبع يستند الى تجربة سابقة وغنية له، كانت عبارة عن فيلمه «يوميات سائق الدراجة البخارية»، الذي حققه قبل سنوات انطلاقاً مما دوّنه الثائر الأرجنتيني تشي غيفارا، حول جولته مع رفيق له ايام الشباب في عدد من بلدات اميركا اللاتينية. وطبعاً، لن نستبق الأمور هنا للحديث عن فيلم ساليس المقبل، لكننا تعمدنا الإشارة اليه كي نقول اهتمام السينما بنوع ادبي يتبدّى قادراً على اجتذاب السينمائيين ومن خلالهم جمهور المتفرجين. ومع هذا، لا بد من إشارة سريعة هنا ايضاً إلى أن أفلاما كثيرة نجحت خلال النصف الثاني من القرن العشرين تبدو مدينة لنصّ كيرواك نفسه، وإن لم تكن اقتباساً مباشراً له. ولعل أبرز هذه الأفلام فيلم «إيزي رايدر»، الذي تعاون على تحقيقه دنيز هوبر وبيتر فوندا وجاك نيكلسون وبوب ريفلسون، فكانت النتيجة انه فتح آفاقاً جديدة للفن السابع، معيداً دروب تواصل جديدة بين الشبيبة الهامشية في الستينات وبين الفن السابع. والسؤال اليوم هو: هل سيتمكن فيلم ساليس المقتبس من «على الطريق»، مِن إحداث المفعول نفسه؟ في انتظار ظهور الفيلم ليعطينا الجواب القاطع، نعود هنا الى الرواية. بدأت الحكاية في العام 1946، وكان جاك كيرواك المقيم في اميركا (هو المولود متحدّراً من ابوين كنديين من اصول فرنسية)، في الرابعة والعشرين من عمره. كان قبل ذلك ترك الدراسة الجامعية ومارس العديد من المهن الصغيرة باحثاً عن مستقبل له عاجزاً عن العثور عليه. غير أنه بعد الحرب العالمية الثانية التي انخرط في آخرها ممرضاً، وإذ عاد لفترة يرتاد جامعة نيويوركية، قيّض له هناك ان يتعرف الى مجموعة من الشبان الغاضبين «الضائعين» مثله كانوا بدأوا يتجمعون محاولين خوض الإبداع الأدبي، وكان على رأس هؤلاء نيل كاسادي وآلين غينسبرغ وويليام بوروز. هؤلاء جميعاً سوف يصبحون لاحقاً - كمجموعة أولاً ثم أفراداً - من كبار الكتّاب الأميركيين، غير أنهم في ذلك الحين كانوا لا يزالون مجهولين تماماً، ولم يكونوا بعدُ قد شكلوا جماعة «بيت جنرايشن» ( سوف يكون كيرواك مبتكِرَ الاسم على أي حال). مع هذه الصحبة إذاً، ادرك كيرواك أن الكتابة والتجوال المتواصل يمكن ان يكونا طريقه في حياته المقبلة. وهكذا، ما إن اطل العام التالي (1947)، حتى بدأ – وغالباً في صحبة نيل كاسادي الذي شعر انه الأقرب إليه وإلى أفكاره من بين أفراد المجموعة - تجوالاً أخذهما اول الأمر الى العديد من الولايات الأميركية، ثم بعد ذلك الى المكسيك، وحتى الى فرنسا والمغرب. هذا التجوال دام سنوات، وكان على الدوام تجوالاً يتم كيفما اتفق: اوتو ستوب، في الشاحنات، على متن البواخر البحرية والنهرية، سيراً على الأقدام، بطعام، من دون طعام، بعمل او بدونه... طوال الطريق كان كيرواك، مع كاسادي او بدونه، هامشياً، متطفلاً، يختلط بالناس فيراهم او لا يراهم، يكلمهم او لا يفعل. كان يعيش – كما سوف يقول ألف مرة لاحقاً - حريته المطلقة لا يلوي على شيء. والحقيقة أنه اذا كان قد جلس في «نهاية المطاف» ليدوّن ذلك كله، فإنه في بداية الأمر لم يكن عازماً على ذلك، بل انه لم يكن ليشعر ان ما يعيشه يمكن ان يكون خامة لعمل كتابي. ولكن، وتبعاً لما كان الكاتب الأرجنتيني بورخيس يقول نقلاً عن مالارميه، بما ان كل شيء في وجودنا يبدو وكأنه وجد ليوضع آخر الأمر في كتاب، حدث ذات يوم من اوائل عقد الخمسينات، انْ جلس جاك كيرواك وقرر انّ ما عاشه طوال سنوات عديدة من حياته جديرٌ بأن يدوَّن. لكنه هنا ايضاً لم يكن يدوِّن مغامرته الهامشية على شكل رواية، بل على شكل يوميات حقيقية. ومن هنا، ما نعرفه الآن من ان ثمة نصّين لجاك كيرواك يحملان العنوان نفسه تقريباً: ذلك النصّ الأولي الذي سجله كيرواك مطبوعاً على الآلة الكاتبة في لفافة ورقية كانت بعيدة عن الأنظار طوال سنوات عديدة، والنص الثاني الذي أعاد فيه كيرواك كتابة النص الأول، إنما على شكل روائيّ هذه المرة، محدثاً تبديلاً، بخاصة في اسمه كشخصية اولى في الرواية (اصبح الاسم سال بارادايس) ثم طبعاً في اسم كاسادي الذي اصبح دين موريارتي. والحقيقة حتى وإن كان بارادايس هو صاحب الرواية والنصّ فإن موريارتي هو الشخصية المحورية. حيث يبدو من الواضح ان جزءاً اساسياً من روح الرواية و «أحداثها» إنما يدور من حول هذه الشخصية وبشكل أكثر تحديداً من حول افتتان صاحب النص بشخصية رفيقه هذا. ونحن لئن كنا قد وضعنا في السطور السابقة كلمة « أحداثها» بين معقوفتين، فما هذا الا للتذكير مرة اخرى اننا هنا امام رواية لا أحداث فيها. فيها لقاءات وحوارات وتجوال دائم وشتائم ومشاهد جنسية تبدو فاقعة احياناً (الى درجة ان الناشر اضطر عند نشرها للمرة الأولى في العام 1957 الى انتزاع العديد من الفقرات والعبارات من النص، وجزء من هذا الواقع لم يُكتشف إلا لاحقاً، ولا سيما عند ظهور النص الأصلي – على شكل مدونات ذاتية خطّها كيرواك كما أشرنا أعلاه -). مهما يكن من الأمر هنا، لا بد من الإشارة الى ان كيرواك حين قرر تحويل النص من يوميات الى رواية، استغرقه انجاز هذه الرواية نحو اسبوعين، فيما اضطر النص نفسه الى انتظار ست سنوات قبل ان ينشر. لكن الرواية حققت فور صدورها نجاحاً كبيراً، ولا سيما لدى الأجيال الشابة من القراء. غير ان ما لا بد من الإشارة اليه هنا، هو ان جاك كيرواك – حتى وإن استفاد من سرعته في الكتابة ليؤلف بعد ذلك الرواية إثر الأخرى قبل ان يرحل في العام 1969 عن سبعة واربعين عاما – لم يتمكن من تحقيق نجاح في أي من كتبه التالية يعادل نجاح «على الطريق» او يدنو منه، حتى وان كان عدد من النقاد ومؤرخي الأدب الأكثر جدية، يرون ان في اعمال أخرى له (مثل «رؤى كودي» و «الملائكة المشردون» و «كتاب الأحلام») ابعاداً ادبية تتميز كثيراً عمّا في نصّ «على الطريق»، الذي قد يعتبرونه ظاهرة أكثر منه رواية. [email protected]