غالباً ما يجد ناشرو كتاب «على الطريق» للكاتب الأميركي جاك كيرواك لذة، حين ينشرون هذا الكتاب، أو أية دراسة تتحدث عنه، في وضع جدول في الصفحات الأخيرة من الكتاب، ترد فيه أسماء شخصيات هذا الكتاب، الى جانب أسماء الشخصيات الحقيقية التي «استعارها» كيرواك محولاً إياها الى شخصيات روائية. ودائماً حين نجد هذه الجداول، نتذكر بسرعة ما كتبه كيرواك نفسه من أنه كان في وده أن يستخدم في نصوصه، الأسماء الحقيقية كما هي «غير أن احتجاجات ناشريّ الأولين هي التي منعتني من هذا». لكن كيرواك حين يقول هذا، لم يكن ليوحي في الوقت نفسه بأنه لا يعتبر «على الطريق» رواية. فهي، بالنسبة اليه والى ملايين القراء، رواية حقيقية. قد تكون كلها مأخوذة من حيوات واقعية، وتروي أحداثاً واقعية وتضم شخصيات لها جذورها وحضورها في الواقع، لكنها مع هذا رواية. قد يكون هذا الكلام صحيحاً، ولا سيما أن مفهوم الرواية في القرن العشرين توسع وصار أكثر شمولاً مما كان يعنيه منذ فجر الرواية. ولكن هل ينطبق هذا الوصف على كتاب تالٍ لجاك كيرواك، صدر كاملاً بعد رحيله بسنوات ويقدم دائماً على أنه رواية، مع أن أية نظرة اليه وأية قراءة له، وحتى على ضوء نظريات الحداثة وما بعد الحداثة الروائية، ستجعله يخرج كلياً عن العالم الروائي؟ أجل، يقول البعض، انه رواية. لا... يقول آخرون، انه مجموعة من النصوص رتبت هنا كيفما اتفق، وفي شكل يجعلها، في أحسن الأحوال، مجرد مسودة وتحضيرات لكتابة رواية من نمط «على الطريق». ولعل في امكاننا أن نروي هنا، لطرح السؤال في شكل أكثر جدية، ما كتبه آلان غينسبرغ، صديق كيرواك وزميله المدافع عنه، وعن كتاباته منذ البداية، لصديقهما المشترك نيل كاسيدي، إذ وصله مخطوط كيرواك الجديد وقرأه. كتب غينسبرغ يقول: «إلهي.. ما كل هذه الفوضى!». ومع هذا غينسبرغ حاضر في الكتاب تحت اسم ايرفن غاردن. أما الكتاب فهو «رؤى كودي». أما كودي هذا الذي أعار العنوان اسمه، فهو الاسم المستعار فيه لنيل كاسيدي نفسه. ذلك أن شخصية كاسيدي تلعب دوراً أساسياً هنا.. حتى وإن كان لجاك كيرواك نفسه، تحت اسم جاك دوليوز، الدور الأكبر، ولكن حين نتحدث هنا، بصدد هذا الكتاب، عن دور أصغر أو أكبر، هل ترانا نتحدث عن أدوار حقيقية... في رواية ما؟ أبداً... على الاطلاق. ففي نهاية الأمر ينتمي «رؤى كودي» الى نوع «هجين» من الكتابة... ولعل كيرواك لم يكن يقصد هذا أول الأمر... كذلك فإن حكاية كتابة هذا النص (أو النصوص المشتتة) تفيد بأن الأمر كان، في البداية، مجرد اضافات واستطرادات كان جاك كيرواك يود اضافتها الى روايته الكبرى «على الطريق». فهو، عام 1951، وبعد أن أنجز كتابة هذه الرواية الأخيرة، على لفة طويلة من الورق، ودفعها الى أصدقائه المقربين، من أبناء ما كان يسمى ذلك الحين ب «جيل البيثكس» (بيت جنراشن) مثل نيل كاسيدي وزوجته، وغينسبرع وبوروز، والآخرين... أحس أن ثمة نقصاً هنا وآخر هناك. ولما كان غير راغب في اعادة كتابة نص أتعبه، راح يدون تلك النواقص، من دون أن يعرف تماماً ما الذي سيفعله بها. فكانت النتيجة مئات الصفحات المتناثرة التي لو حاول دمجها في «على الطريق» لضاع وضاعت الرواية. وهكذا صدرت «على الطريق» كما هي... وواصل كيرواك كتابة المقتطفات طوال 1951 - 1952، ليشكل منها كتاباً عجيباً غريباً، هو الذي نتحدث عنه هنا. غير أن كتاب «رؤى كودي» لم ينشر في حينه. بل لم ينشر خلال حياة جاك كيرواك التي انتهت عام 1969، ذلك أن الناشرين اعتبروه يومها كتاباً اباحياً. كل ما في الأمر أن دار النشر المسماة «نيودايركشن» أصدرت عام 1959 طبعة صغيرة ومحدودة تضم بعض الفقرات. أما الكتاب نفسه، وكما كتبه كيرواك فإنه نشر، كما هو، عام 1973، أي في زمن كان قد بات ممكناً نشر هذا النوع من «الأدب». وقد نشر الكتاب مع مقدمة لآلان غينسبرع نفسه، الذي يبدو أكثر رضى على الكتاب هذه المرة، عنوانها «رؤى المتذكر الكبير». ومنذ ذلك الحين صارت لهذا الكتاب حياته الخاصة ووجوده، دائماً بارتباط ما مع «على الطريق»، ولكن بارتباط يتضاءل، لعل أفضل من عبر عنه كان ذلك الناقد الذي، إذ رأى أن في الامكان مقارنة «على الطريق» بهاكلبري فن لمارك توين، أردف، نصف مازح، «إذاً... يمكننا أن نعتبر «رؤى كودي» نوماً متأخراً...». وطبعاً، إن من يقرأ «رؤى كودي» لن يجد أبداً ما يذكر بمارك توين، لكنه سيجد بالتأكيد ما يذكر ب «على الطريق» باعتباره بالنسبة الى الأدب الأميركي في القرن العشرين ما كانه «هاكلبري فن» بالنسبة الى هذا الأدب في القرن السابق. يتألف «رؤى كودي» من ثلاثة أجزاء، متداخلة على أية حال، في أولها تطالعنا جملة من نصوص ذاتية تنتمي الى ما يشبه تيار الوعي، تحاول أن تقول لنا نظرة جاك دوليوز (كيرواك) الى نيويورك شبابه خلال السنوات التالية للحرب العالمية الثانية. انها حوارات داخلية تحمل صوراً مشتتة ومواقف تبدأ ولا تنتهي ورغبات دفينة وسهرات وشراباً ومخدرات، ونساء.. كثيراً من النساء.. قبل أن ينتقل الكاتب الى القسم الثاني في شكل مباغت، وهو في معظمه كذلك حوارات داخلية تسيطر عليها رغبة جاك في أن يزور صديقه كودي في سان فرانسيسكو. من دون أن نعرف ما إذا كانت الزيارة ستكون حقيقية، ثم ما هي الغاية منها. ان كودي لم يوجد في الكتاب حتى الآن الا من خلال رغبات جاك وتردده وذكرياته. كذلك فإنه، إذا كان سيوجد حقاً في القسم الثالث والأخير من نصوص الكتاب، فإنه لن يوجد إلا بصفته فريقاً ثانياً في حوار ثنائي مسجل، أو حوارات متقطعة تستغرق خمس ساعات، ويمكن النظر اليها على أنها حوار واحد متواصل. إنه حوار طويل ومتشعب ومفتت بين جاك من ناحية وكودي من ناحية ثانية (تدخل على خطه بين الحين والآخر ايفلين، زوجة كودي، وهي في الأصل، طبعاً، كارولين زوجة نيل كاسيدي). وقد أتبع كيرواك هذا القسم الثالث والأخير بنص على شكل ملحق عنوانه «محاكاة الشريط»... وهذا القسم هو عبارة عن تسجيل لمحاولة كيرواك/دوليوز، أن يضع نصاً طويلاً، وربما متماسكاً، إنما في لغة عفوية مستقاة مباشرة وفي شكل أوتوماتيكي (على شاكلة الكتابة السريالية بعض الشيء)، من النصوص التي نقلها عن الشرائط وتملأ القسم الثالث. ونحن اذا كان لا بد لنا من أن نلاحظ لدى قراءة كل هذا الكم من الفقرات والنصوص والاستطرادات، أن بعض ما فيها انما في شكل استعادة أو استطراداً لبعض الحوارات والأحداث في «على الطريق»، يصبح من حقنا أن نطرح سؤالاً من المؤكد أن ما من أحد يملك جواباً عنه: «ترى هل كانت غاية جاك كيرواك، حين بدأ تدوين الاسكتشات والفقرات التي يتألف منها هذا الكتاب الجديد، ان يعيد كتابة «على الطريق» ثم صرف النظر؟ أم أنه وهو يحاول أن يسد ثغرات في «على الطريق» رأى أن سد الثغرات سيفتح في الكتاب الأصلي ثغرات أخرى، فواصل الكتابة من دون أن يعرف ما الذي يمكن أن يفعله بهذا النص الجديد؟». إن هذا كله يذكرنا بما كتبه ساشا غيتري مرة لحبيبته: «كتبت لك رسالة... بعثتها بالبريد. ها أنا أقرأ المسودة. أرى فيها أخطاء ونواقص كثيرة، أصححها. أعرف أن الرسالة ذهبت وأن التصحيح سيبقى عندي... ولكن هل يهم هذا الواقع حقاً؟». br / لسنا ندري ما إذا كان جاك كيرواك قد عرف نص غيتري الطريف هذا... لكننا نعرف أن سمعة هذا الكاتب الأميركي من أصل فرنسي (ولد عام 1922 ومات عام 1969)، انبنت كلها على رواية واحدة له هي «على الطريق» الى درجة أن كثراً يخيل اليهم أنه في حياته القصيرة لم يكتب غيرها، لكنّ له في الواقع نصوصاً وكتباً أخرى، الى جانب «رؤى كودي»، مثل «ذا دارما بامز» و «بيغ شور» و «أهل طرق الأغوار»... غير ان سمعته تبقى اساساً مرتبطة بزعامته لجيل «البيثكس» المتمرد الذي أورب، وثوّر الأدب الأميركي عند نهايات الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، مطلقاً ثورة سادت كل أنواع الفنون والابداع، لا تقل أهمية عن نظيرتها الثورة السوريالية الفرنسية قبلها بأكثر من ربع قرن. [email protected]