كان للساعات التي أمضيتها في منزل الممثلة رضا خوري وهي مصابة بمرض الألزهايمر تأثير الصدمة في علاقتي مع النسيان، وبالتالي مع أمراض الذاكرة. حدث ذلك في إطار تحقيق عن مسيرتها الفنية التي غابت عن بالها تماماً تاركة المكان لفراغ غامض يحاول العلم أن يجد أسبابه وعلاجه، وكان على والدتها وشقيقتها أن تجيبا على الأسئلة وترويا السيرة المكسورة في منتصف عمر العطاء. أما السؤال الذي كان يحفر في البال مذ رأيت «رضا» غائبة في عالمها وعجزت المرأتان: الأم والأخت عن إيجاد الجواب عليه فكان: ماذا لو كانت «رضا» تتذكر ولا تستطيع أن تعلمنا بذلك؟ يملك العلم في طبيعة الحال الجواب القاطع على ذلك غير أن الذكريات الهائمة خارج الذاكرة المريضة تثير تساؤلات عبثية تفضح خوفنا من النسيان أكثر من رغبتنا في المعرفة. دراسة الباحث السوري الدكتور جمال شحيد عن «الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) أعادت إلى «ذاكرتي» تفاصيل ذلك اللقاء وما جره من اهتمام بموضوع النسيان، خصوصاً مع ارتفاع عدد المصابين بأمراض الذاكرة في العالم، ما جعل السينما العالمية تخصص له الكثير من الأفلام التي تصور معاناة المرضى وأهلهم على حد سواء. تستفيد الدراسة من معطيات العلم وآخر ما توصل إليه الطب لفهم الأدب لتشكل نوعاً أدبياً تفتقر إليه المكتبة العربية مهما كثُر، أعني به قراءة الإبداع الفني والأدبي قراءة علمية بحتة، تضع النص في مختبر العلم وتحلله انطلاقاً من الثورة العلمية التي تفاجئنا كل يوم بجديد. ففي الأعوام القليلة الماضية توصلت الأبحاث المتعلقة بالدماغ والجهاز العصبي إلى نتائج مذهلة تدفعنا لإعادة النظر في كثير من المسلمات والموروثات، ولا يخفى كم يحمل النص الأدبي منها - فضلاً عن تحوله هو بالذات موروثاً «مقدساً» لا يرضى كثيرون بوضعه في مختبر التحليل - ما يجعله مادة خصبة لكثير من العلوم كعلم الاجتماع والنفس والفلسفة وغيرها. منذ «قفا نبك» والذاكرة العربية تفرغ مخزونها دمعاً وشعراً ثم تعباً من الهزائم (ارتحالاً بدوياً أو فساداً حكومياً) ما يجعلها أسيرة حزن سرمدي لا يتوقف عن مدها بالدمع المنساب كلمات. وإن كانت الدراسة المشار إليها محصورة في الرواية العربية المعاصرة إلا أنها تنطلق من بدايات العلاقة القائمة بين التذكر والأدب، أكان ذلك في الشعر أو الحكايات الشعبية أو استظهار القصائد في المدرسة. فانطلاقاً من مقدمة الكتاب للناقد فيصل دراج التي تشكل فصلاً تمهيدياً لا بد منه، يجد القارئ نفسه في مواجهة تساؤلاته الخاصة حول موضوع النسيان: كيف تكون الحياة لو أننا لا ننسى؟ هل نحن صنيعة الذكريات؟ كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف نحميها من نسيان قد يجتاحها بلا رحمة؟ هذه وغيرها من الهواجس تجد أجوبتها في بابَي الدراسة: الأول عن الجانب النظري في دراسة الذاكرة، وفيه لمحة تاريخية تعرض لآراء الفلاسفة في المسألة، والثاني عن توظيف الروائيين العرب الذاكرة، فضلاً عن ملحق لصور طبية عن الدماغ تبين عمله على صعيد التذكر. أما تحديد المعايير التي اعتمدها الباحث في اختيار الروائيين الذين تناولتهم الدراسة فأمر يستحق التوقف عنده، على رغم التبرير الوارد في الصفحة 22 من الفصل الذي يفتتح به الدراسة إذ يقول: «قد يقول قائل: لقد أهملت هذا الكتاب أو هذا البلد أو هذه المنطقة من العالم العربي، هذا صحيح، لا استهانة ولا انتقاصاً، بل لطبيعة كل اختيار. والحقيقة أن النماذج المختارة كانت بخاصة لروائيين ينتمون إلى بلاد الشام ووادي النيل وشبه الجزيرة العربية، لا لأنني أعتبرها المركز بينما البلدان الأخرى طرفية، بل لاقتناعي بأن الفن الروائي العربي نشأ وترعرع ونضج في هذا الحيز من العالم العربي منذ القرن التاسع عشر وحتى الربع الثالث من القرن العشرين». فهل وضع الناقد شحيد ثبتاً بالموضوعات المتعلقة بالذاكرة (ذاكرة المدينة، ثقوب الذاكرة...) واختار روايات تلائمها أم هي الروايات التي قرأها فرضت نفسها واتجاهات البحث فيها؟ ولكن لا يسع القارئ التغاضي عن حصة الأسد التي أعطيت لخمسة روائيين سوريين (خيري الذهبي، وليد إخلاصي، روزا ياسين حسين، لينا هويان الحسن، سمر يزبك)، في مقابل ثلاثة مصريين (نجيب محفوظ، جمال الغيطاني، صنع الله إبراهيم)، وفلسطينيين (غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا) بينما كانت حصة كل من السعودية (عبد الرحمن منيف) والسودان (الطيب صالح) ولبنان (إلياس خوري) روائياً واحداً. وغير خافٍ أن الروائيين موضوع الدراسة ينتمون الى أجيال مختلفة متباعدة ومدارس متباينة، فضلاً عن أن الباحث حصر مساهمة المرأة في الروائيات السوريات الشابات قناعة منه «أن إسهامهن في الرواية هو إثراء لهذا النوع الأدبي» (ص241) (ألم تعد غادة السمان معاصرة؟). كما لم أجد ما يمنع نقل الفصل الرابع من القسم الأول إلى القسم الثاني وهو عن دور الذاكرة في السيرة الذاتية في كتابَي جبرا إبراهيم جبرا: «البئر الأولى» و «شارع الأميرات»، علماً أن القسم الثاني من الكتاب هو التطبيق العملي لا النظري عن دور الذاكرة في الرواية العربية، وكلنا يعلم تأثير السرد الروائي في السيرة، وتسرب ملامح السيرة الذاتية إلى الرواية. ولو نالت دراسة الروايات الحصة الكبرى لكان ذلك أكثر متعة من أن تنال النظريات العلمية والنماذج الأوروبية ما يقارب نصف الدراسة (148 صفحة في مقابل 92 صفحة للتطبيق). تبقى أهمية الدراسة في تأكيدها انصراف الرواية العربية إلى تذكر الماضي (الأحداث، الأمكنة، الروائح، الأصوات، المشاهد) لا إلى تخيل عوالم لا علاقة لها بالواقع، وهذا على الأرجح ما يدفعنا للتعامل مع الروايات على أنها سير ذاتية لا عمل فيها للخلق الفني المرتبط في ذهننا الجماعي بالحكاية.