في روايته الثانية «تقلّبات رجل موسمي» (دار الفارابي) يقدّم الكاتب نديم نجدي، عالماً متخيّلاً، يشكّل ببنائه، معادلاً موضوعيّاً، للعالم القائم الذي نعيش في تقلبات مسيرته، وتبدّل مواسم العمر التي تظهر ملامحها على وجوه البشر القائمين فيه. يحملنا الى بواطننا، ويكشف ما نودّ قراءته، لكننا لا نملك الجرأة على ذلك، نظراً إلى الموانع والحوائل المتعدّدة التي تمنع سيل التداعيات وتحبسها في بئر عميقةٍ، فيصبح انتشالها بحاجة إلى تقنيات وآليات قد لا تتوافر لدى الكثيرين منا. لكن الكاتب كان ممن توافرت لديهم هذه القدرة على نبش المخبّأ والمخفي، لما يمتلكه من تقنيات في التحليل النفسي والفلسفي - أستاذ جامعي في الفلسفة - استطاع توظيفها في هذه الرواية، عارضاً الكثيرَ من النظريات، محاولاً تطبيقَها على شخوص روائية خلقها تعاني أمراضاً نفسية مزمنة يعود معظمها إلى مراحلَ طفوليةٍ، مؤكّداً أنّ الرجال والنساء أطفالٌ كبار، تتحكّم بهم طفولتهم ولا يستطيعون الخروجَ من بين براثنها بيسرٍ. تتوافر العناصر الروائية كلُّها في هذه الرواية، فنجوب عبر مركبها البنائي، عالماً متخيّلاً، مخلوقاً بابتكار صاحبه. يقدّمه راوٍ ليس شخصيةً من شخصيات العمل، فإذا به عليم، يفوق علمُه علمَ الأبطال أنفسهم، إذ يعرض ما هو مكشوف أو مستور، متدخلاً في ما يعنيه وما لا يعنيه، نظراً إلى ما منحه الكاتب من قدرة على ذلك، فهو غالباً ما ينطق بلسانه. أمّا الزمن، فهو زمن كرونولوجي تتابعي، نراه واضحاً في أرقام أجزاء الرواية الممتدة من (1 إلى 12)، لكنّ التشظي في الزمن والمفارقات الزمنية (استرجاعاً واستباقاً)، نلاحظها في تلافيف الجزء الواحد فقط. فغالباً ما تدخلنا الأحداثُ الى قصصٍ قديمة سابقةٍ لزمن القص، فتعرفنا الى شخصيات غصّت بها الرواية وإن لم يكن لها دور على مسرح الأحداث الآنية. هذا الزمن يستوطن في فضاء من الأمكنة، ليس فيها سوى بيروت وعين الحلوة والليطاني أمكنة لها مرجعها على خريطة المكان الواقعي، في حين كثرت الأحداث في أماكن متوهمة لها ما يعادلها في العالم الواقعي والمرجعي، كنهر السيبانة وضيعة الدلونة وحي الفاعور ودير الشير... أمّا الشخصيات فهي غزيرة، اختصرتها شخصيات سالم (البطل الرئيس)، ورانية الزوجة المأزومة نتيجة طفولة غير سوية، مفقود فيها الأمان (احتضنها بحنو كي يستعيد دفء أمان فقدته وهي صغيرة - ص 200)، وذلك نتيجة خلافات الأبوين التي يدفع ثمنَها الأبناءُ دائماً، إضافة الى شخصية (نسيم الفلسطيني) الذي يعاني من عقدٍ طفولية أيضاً، تعود إلى أثر المكان (المخيم) وما فيه من عوامل إذلال، يضاف اليها ما تعرّض له طفلاً، وقد زرع فيه كمّاً هائلاً من الاضطرابات. متتالية سردية هذا العالم الروائي، يقدمه الكاتب في متتالية سردية محبوكة بإتقان، وأسلوب سلس يحفّز المتلقي على متابعة قراءة الرواية من دون توقف، لما تزخر به من أحداث لم تفلت من يد صانعها، فقد عرف كيف يؤثّر في القارئ ويجعله متشوقاً لمعرفة نتائج عدة، عرضتها الرواية عبر أحداث متتالية حيناً، وعبر استطرادات شكلت هي الأخرى أقاصيصَ صغيرة توافرت فيها عناصرُ الأقصوصة حيناً آخر... وعلى رغم هذه التقنيات الفنية، نرى الكاتب يستغلّ روايته لتكون منبراً يعلن فيه رؤيته الى الوجود، والرؤية عادة، تأتي متممة للعناصر البنائية التي تشكّل مرحلة الفهم، في حين تشكّل الرؤية مرحلة التفسير... بيدَ أنّ الكاتبَ أعلن رؤيتَه من خارج إطار العناصر البنائية المتوافرة والجديرِ ذكرها، إذ استغلّ شخصياتِه وراويه بوقاً يرفع من خلاله ما يودّ قوله، ما جعله يغلّبُ مهاراتِه المهنيةَ ذات التحليل النفسي والبعد الفلسفي، على هذه التقنيات والبنى الروائية... و أكثر ما تجلّى ذلك في شخصية سالم الأستاذ في الفلسفة، الذي يردّ كلّ شيء إلى أسباب نفسية سيكولوجية، وفّر له الكاتب جواً من القدرة على تحليلها. وبهذا يجعل الكاتب روايته على شكل محاضرةٍ في التحليل النفسي، فإذا بها تغصّ بمصطلحات علم النفس، وعناوين الأمراض النفسية الكامنة في الأعماق منذ الطفولة، والتي تجعل المرء عصابياً، مضطرباً في علاقته بنفسه والغير وخالقه أحياناً. فلم تخلُ عشرات الصفحات من هذه المصطلحات كالمازوشية والسادية والنرجسية، إضافة إلى عدم الجزم في إظهار المرض مباشرة على طريقة المعالج النفسي، إذ تواترت كلمة «لعل» أو «ربما» عشرات المرات عند عرض أي مشكلة نفسية... ولم يكتفِ الكاتب بتحميل شخصياته هذه الأسس في التحليل، وجعلها تنوء تحت ثقلها، بل نراه ينحّي الشخصية أو الراوي القريب منه، بطريقة ديكتاتورية، ويلتقط الصوتَ السردي بنفسه من دون مسوّغ، فيقدّم نصائحَ فلسفية ونفسية للقارئ عموماً، ناسياً أنّ هذه النتائج الرؤيوية ينبغي التقاطها عبر العناصر البنائية الروائية، وعبر الراوي على الأقل، لا عبر الكاتب نفسه، كما هي الحال في المواعظ والنصائح ذات الوظيفة الكلامية الإيعازية الموجّهة إلى العامة بطريقة جلي. ويتعدّى الأمر الحدودَ أكثر، حين يتوجّه الكاتب، وفي شكل فاضح وواضح، إلى القارئ، ناسياً أن القارئ شريك في النص، فنراه يفصله عن العمل كما فصل رؤيته عن البنية. فسيطرة الكاتب هذه لم تؤذِ الراوي والشخصيات فحسب، بل حرمت المتلقّي لذّة الاكتشاف بنفسه، فلم يعطِ نجدي مجالاً للقارئ ليكشف المرض النفسي لدى الأبطال، بل نراه يعلن عنه بسرعة ليؤكّد خبرته اللامتوافرة في القارئ أو الناقد وفق ظنه، وبهذا يظهر تكبر الكاتب وترفعه وعدم اعترافه بقدرات الآخرين... وبهذا يمكن القول إننا أمام رواية توافرت فيها الأسس الفنية، والأسلوب السهل الجاذب، والقضايا الإنسانية التي نعاني معضلاتها في أحيان كثيرة، لكن هذا كله تقلّص أمام مهارات الكاتب المهنية والعلمية التي حاول توظيفها وبثّها عبر العناصر البنائية لتكون رؤية روائية، إلا أنها طغت على كل شيء وحرمت المتلقي من لذة الكشف عنها.