مثل غيرها من الثورات والتمردات الاجتماعية، لا تحظى الانتفاضة السورية بمشاركة أكثرية حاسمة من السوريين أو مؤازرتهم، لكنها لم توفر أسباباً قوية لأحد كي يعترض عليها أو يعاديها. ثمة معترضون، إلا أن قلة بينهم هي من يمكن أن تدافع عن النظام حتى النهاية. هذه القلة هي من تتماهى معه في كل حال، لأسباب تلتقي فيها المكاسب والامتيازات بالمخاوف. الآخرون لا يتماهون مع الانتفاضة، لكن طابعها السلمي الوطني العام لا يسوغ عداء نشطاً لها من أحد، بل هو يحيّد أكثر وأكثر شرائح وفئات اجتماعية وثقافية كانت أقرب إلى النظام، أو تعتبره سنداً لها. النظام يوفر أسباباً جديدة للنفور منه والفتور تجاهه، وإن ليس بالضرورة الانحياز للانتفاضة والمشاركة فيها. البطش الدموي بالاحتجاجات الشعبية، والتلاعب والتوتير الطائفي الذي تتردد كل حين دلائل إضافية عليه، والسعي الى الاستئثار بالمال والموارد المادية من رجاله، مما يجري تداول سِيَره المثيرة للاحتقار على نطاق واسع، فضلاً عن سياسة إعلامية سفيهة تستهين بذكاء السوريين، كل هذا يظهر النظام على حقيقته الفظة: لا قضية له، ولا يمكن التماهي معه. قد تواليه قطاعات من السوريين خشية من غيره، لكن لا يكاد أحد يمحضه الولاء إيماناً به أو اقتناعاً بقضية إيجابية له. ولا أحد تقريباً مستعد للتضحية من أجله. في مواجهته، للانتفاضة قضية إيجابية لا تقتصر على عنواني الحرية والكرامة. الواقع أن حساسيتها العامة، الوطنية والمدنية، وأكثر منها شعاراتها وتسمياتها وسياستها، تؤكد باضطراد تفوقها السياسي والأخلاقي على النظام، وتضع المدافعين عنه أو حتى الساكتين عليه في موقع حرج. أقول سياستها لأن للانتفاضة سياسة متبصرة، تجمع بين السلمية والوطنية الجامعة والوعي بالواقع المركّب للمجتمع السوري، مشكّلة النقيض الأتم لسياسة النظام القائمة على العنف والتفريق بين السوريين. ولهذه السياسة سند حي متجدد، يتمثل في الفاعلية الاحتجاجية ذاتها، والخروج الشجاع لأعداد متزايدة وفي بؤر تتزايد بوتيرة أكبر مما يستطيع النظام إخماده. ولها «جهازها السياسي» المتمثل في «لجان التنسيق المحلية» التي تعمل على تنظيم الأنشطة الميدانية والربط بينها، وتعبر عن مواقف سياسية أيضاً: تتحفظ على «الحوار» مع النظام بينما هو مستمر في القتل والتنكيل، وتحدد الشروط الأولية لحوار مثمر، وتعرّف بالمطالب الأساسية للانتفاضة. وللانتفاضة «جهازها الإعلامي» و«مراسلوه» الذين لا يحصون عدداً، كل المشاركين الشبان في الانتفاضة من حيث المبدأ، مسلحين بكاميرا الهاتف المحمول. ولأول مرة لدينا ما يفوق الألف شهيد لقضية التحرر من الاستبداد، ومعتقلون يفوقون ال 10 آلاف (بعضهم رهائن). وللانتفاضة بعدُ سجل شرف يضم معلومات وجيزة عن الشهداء والمعتقلين (أسمائهم وأعمارهم ومواطنهم، وأين سقطوا). يضم أيضاً متضامنين ومثقفين ومشاركين في أنشطة مكملة. وللانتفاضة، فوق ذلك، ذاكرة خاصة بها، يحرسها من النسيان سجل أرشيفي ضخم، صنعه وعممه الناشطون الميدانيون أنفسهم. بفضل مواد لا تنسى من هذا السجل، أسهم الناشطون في كسب المعركة الإعلامية والأخلاقية ضد النظام. من كل ذلك يمكن القول إن الانتفاضة هي الفاعل السياسي الأساسي في سورية اليوم، الذي يضع جميع الأطراف الأخرى في موقع المتفاعل أو المستجيب: النظام والمعارضة التقليدية والقوى الدولية. وهي أيضاً الصانعة لقيم جديدة، الحرية والكرامة والمساواة والعدالة، ولشرعية جديدة قائمة على المواطنة، لا على تجريد اسمه «الوطن»، أو على عقيدة قمعية فاسدة اسمها «الممانعة». وبصفتها مؤسسة لقيم ولشرعية جديدة، لا يسع أحداً أن يحوز الشرعية إلا بالارتباط بعمليات الانتفاضة وأنشطتها. ومن شأن أية هياكل وترتيبات محتملة، في داخل البلاد أو خارجها، لا تأخذ هذا الواقع في الاعتبار أن تكون عبئاً على الانتفاضة وحسماً من حسابها لا إضافة له. الانتفاضة كيان جديد وهوية جديدة في سورية، وهي إن لم تكن قادرة على الاكتفاء الذاتي سياسياً، فإنها في غير حاجة إلى من يمثلها أو ينطق باسمها من خارجها. الواقع أن صفتها كانتفاضة ديموقراطية تتعارض مع تمثيلها بهيئات أو هياكل لا تنتجها هي ولا تنضبط بإيقاعها، أو لا تقدر على سحب الشرعية منها في كل وقت. التمثيل السياسي للانتفاضة ضروري، لكن ليس أي تمثيل، ولا بأي ثمن. ثم إن هذا الواقع الجديد يقضي أيضاً بأن أي «حوار»، لا يكون مع الانتفاضة واستجابة لمطالبها، هو تضييع للوقت وغفلة عن الواقع. في سورية اليوم سلطتان، سلطة النظام وسلطة الانتفاضة. وإن لم يكن «الحوار» بينهما فإنه لا يكون. ولهذا بالطبع مقتضياته التي حددها بيان لجان التنسيق الثاني في منتصف أيار (مايو) الجاري: وقف القتل وحصار المدن والإفراج عن المعتقلين والكف عن ملاحقة الناشطين ووقف حملات التجييش والتخوين وضمان التغطية الإعلامية المستقلة للاحتجاجات. ومن أسسه التي حددها البيان نفسه، عدم تجزئة الحوار إلى مسارات منفصلة، والتمثيل المناسب، والعلنية، ووجود جدول أعمال محدد وسقف زمني، وتغطية إعلامية مستقلة لجلسات الحوار المحتملة. ما يحتمل أن تحتاجه الانتفاضة وجهازها السياسي البازغ من مساندة هو بالضبط وضع الكفاح السياسي والميداني في سياق وطني عام، ينصف نضالات اليوم، ويشكل مع الانتفاضة ذاتها أساس سورية الجديدة، الديموقراطية. وكلما كانت المسافة أصغر بين الأنشطة الميدانية وبين تنظيمها السياسي كانت المحصلة أكثر ديموقراطية. لا يسع الديموقراطية أن تكون هدفاً للعمل العام إن لم تكن منطقه، أو روحاً مبثوثة في فعالياته العملية. ومن القضايا المهمة التي تحتاج الانتفاضة إلى دعم سياسي بشأنها ما يتصل بتكوين المجتمع السوري من مشكلات سياسية محتملة، والعمل على بناء أكثرية وطنية جديدة، عابرة للأديان والإثنيات والمذاهب، تؤسس لامتلاك السوريين دولتهم، وتسهم في تكونهم أمة مواطنين متساوين. لقد أظهرت الانتفاضة حساً مميزاً في هذا الشأن، وعملت على إبطال مناورات النظام وتعطيل أية ذرائع محتملة للتوتير الطائفي. لكن هنا أيضاً يلزم وضع هذا الحس السديد في سياق التوجه نحو وطنية سورية قائمة على المواطنة المتساوية، دون تمييز على أساس الدين أو المذهب أو العرق، أو الجنس. وإنما بهذا يمكن للانتفاضة التي لم توفر لأحد أسباباً وجيهة لرفضها، أن توفر أسباباً قوية للانحياز لها والوقوف إلى جانبها.