عندما أمضيت بضعة أشهر في العراق أواسط سبعينات القرن الماضي، لم تكن الفرصة سانحة للتعرف بعمق الى المطبخ العراقي نظراً الى ان اقامتي كانت مستقلة والاحتكاك مع العوائل العراقية كان محدوداً الى حد بعيد. ومع ذلك تذوقنا واستمتعنا بالجاجيك واللبلبي والمسكوف والكبة الموصلية والقيمر وغيرها. مضت سنوات عدّة على تلك الفترة قبل أن تتكون عندي هواية الطبخ، إعداداً وتذوقاً، فرحت أبحث في أوقات الفراغ عن جوانب اللقاء والافتراق في الأطباق المختلفة، خصوصاً من لبنان وفلسطين وسورية والعراق والأردن ومصر والخليج وتركيا وايران بسبب ترابط هذه الدول مع بعضها بعضاً في مراحل تاريخية متفاوتة. هذه المقدمة ضرورية، وقد أثارها في نفسي صدور كتاب ضخم وأنيق ومنوع باللغة الانكليزية عنوانه «كتاب الطبخ العراقي» ألفته سيدة عراقية هي لميس ابراهيم المقيمة في بريطانيا منذ سنوات. وقد أرادت ان تسجل لأبنائها ولأبناء المهاجرين العراقيين في الأساس ما تعرفه عن المطبخ العراقي المنتمي الى اتجاهات متناغمة في شكل يصعب الفصل في ما بينها. نبدأ أولاً من حيث شكل الكتاب، فهو أنيق للغاية وزادته الصور الملونة التي التقطها تيري ماكورميك متعة وجمالاً. وقد نجحت المؤلفة في تقسيمه بطريقة متسلسلة ما يساعد القارئ على المتابعة السهلة، وكذلك أوردت أسماء الطبخات بالعربية والترجمة بالانكليزية ثم النطق العربي بالحرف اللاتيني. وعمدت السيدة لميس ابراهيم، من ناحية أخرى، الى شرح موجز للمكونات الأساسية للأطباق المعروضة، وتحديداً تلك المكونات غير المعروفة في الغرب. وكثيراً ما كانت تطرح بدائل معينة إذا كانت تشعر بأن من الصعب الحصول عليها من المحلات البريطانية. والواقع أن هذا الكتاب مميز من ناحية أخرى، فعلى حد علمي لم يصدر باللغات الأوروبية إلا عدد محدود جداً من الكتب عن المطبخ العراقي بالذات، على رغم أن دور النشر أنتجت في السنوات القليلة الماضية عشرات المطبوعات عن المطابخ في لبنان وسورية ومصر والمغرب. ومع أن المؤلفة التزمت الطرق التقليدية في تقديم وصفات الطعام، بما في ذلك المكونات الأساسية مثل اللحم، إلا أنها تؤكد في المقدمة أنها تمكنت في أحيان من تغيير تلك المكونات واستبدال عناصر أخرى باللحم. ولا شك في أن هذا التوجه هو السائد الآن، فنحن في منزلنا كثيراً ما نتخلى عن اللحم في أطباق اليخنة مثل السبانخ والفاصولياء العريضة... وتكون النتيجة ناجحة جداً. وتجدر الإشارة هنا إلى أن اليخنة والرز تعرف في العراق ب «التمن والمرق». ونعود الآن إلى الوصفات ذاتها، لنجد أن مؤثرات عدة تفاعلت لتعطينا هذا المطبخ العراقي الغني جداً. إيران وتركيا وسورية تلعب دوراً كبيراً، والعديد من الطبخات نجد لها مثيلاً في أكثر من منطقة وإن كانت الأسماء تختلف في بعض الأحيان. شوربة العدس في العراق هي ذاتها في سورية ولبنان وفلسطين. الهريسة معروفة في دول الخليج وجنوب لبنان والأردن. اللحم بالعجين في سورية ولبنان وفلسطين يعرف في العراق باسم «خبز اللحم». السلطات كلها، إجمالاً، هي ذاتها في الدول المجاورة. التبولة العراقية مأخوذة من تبولة لبنان. الجاجيك هي سلطة اللبن بالخيار. ومَنْ منا لا يعرف البابا غنوج (متبل الباذنجان). أما الكبة الموصلية فهي تختلف في شكلها عن كبة سورية ولبنان، لكن المكونات هي ذاتها. ففي حين تكون مسطحة بالصينية، ومدورة باليد، فإنها في الموصل رقيقة ودائرية بحجم الرغيف تقريباً. وهذا لا يعني أن الاشكال الأخرى غير موجودة، فالكتاب يقدم لنا كبة بالصينية وكبة بطاطا وكبة باذنجان وكبة حلب... وغيرها. وكيفما نظرنا في الكتاب، نجد أطباقاً مشابهة لما اعتدنا عليه في المطبخ اللبناني - السوري، وإن كانت دخلت عليها تأثيرات إيرانية وتركية واضحة. غير انني سأختم بطبقين أثارا في نفسي ذكريات جميلة. الأول مربى الباذنجان الصغير الذي تبدع في إعداده شقيقتي الكبرى صالحة، وقد كنت أظن أن هذا الطبق حكر على البقاع والداخل السوري، فإذا بي أجده في العراق ايضاً وبالطريقة نفسها مع اختلاف بسيط هو اضافة الجوز الى عملية الطهو. أما الطبق الثاني فهو التمرية (حنيني)، ويتألف من التمر والبيض. وعندما كنت صغيراً كان والدي يعد هذا الطبق في أيام الآحاد مستخدماً السمن الحموي بدلاً من الزبدة، وكان يقول لنا دائماً انه تعلم هذه الطريقة من أبيه (جدي) المهاجر من إيران. ومن بين كل وصفات «كتاب الطبخ العراقي» لم أجرب حتى الآن سوى هذا الطبق... ومع أنني استمتعت به كثيراً وتذوقته العائلة بقبول وارتياح، إلا ان ما أتذكره عن طريقة تحضيره على يد والدي يظل الأطيب! لعلها الذكريات، غير انني بت أعد هذا الطبق اسبوعياً تقريباً... لكن من دون السمن الحموي الذي لا يتوافر أبداً في لندن، وحتى لو عثرنا عليه فإن الخوف من الكوليسترول يجعلنا نتردد في استعماله!