أدخلتني المفردات والمفاهيم في مقالة السيد منير الخطيب («تجوين» العلمانية، «الحياة»، 24 ايار /مايو 2009) إلى المناخ السجالي السياسي والفكري ذاته الذي تعاطى معه وخلّفه الراحل الكبير ياسين الحافظ. لكن مع فارق كبير: كان ياسين الحافظ في مقارباته أكثر التصاقاً بالواقع وأحداثه ومكوناته (بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا معه)، فمثلاً في ما يخص العلمانية، موضوع حديثنا، نجده يقرر أن تغلغل مفاهيمها في «الصف الإسلامي» عموماً و «السني» كونه «القوم الأكثري» عربيا حسب تعبيره، هو «الشرط الأول والأساسي لتحديث وعلمنة المجتمع العربي»، ويطلب من «الصف التقدمي اللبناني» أن يفتح حواراً مع «الأنتلجنسيا المسيحية» المحافظة على الصعيد السياسي، ولكن المنفتحة والحديثة ثقافياً واجتماعياً. بالمقابل، نجد عند السيد منير الخطيب، تعففاً نخبوياً عن الوقائع، يبدو في امتثال سرده لفكروية تجريدية تستسهل الوصف والحلول، وتنأى بنفسها عن الواقع الذي يحضر بصيغة الاستنكار لما آل إليه من «فوات» أخذت تعكسه وسائل الإعلام المتعددة. والحقيقة أن ما يستنكره الخطيب ويعتبره علامة انحطاط في «ديموقراطياتنا» ليس بالواقع الطارئ والمفاجئ إلى هذه الدرجة التي يوحي بها نصه، وكأن هناك قطيعة بين «تقدم التأخر» في «مضامين اشتراكياتنا» وبينه في «مضامين ديموقراطياتنا»! في حين أن السؤال الذي كان يجب أن يستثيره هو عن سر استمرار تقدم التأخر هذا رغم اختلاف المضامين. إن التغاضي عن هذا السؤال وغيره يظهر وكأن «شيطنة» العلمانية أو الحداثة عبارة عن مزاج ضارب لا تفسير له، بل وأكثر من هذا، قد يظهر وكأنه استمرار ماهوي لتقاليد عقلية متأصلة خارج التاريخ والحياة. وهو ما يقع الخطيب في مطبه، عندما يشير إلى أن تاريخنا «العربي- الإسلامي» هو أسير ذهنية الملة الناجية والاستبداد ولم يعرف قيم الحوار وثقافته! وهو ما يعني في نظري أمرين: أولهما أن الخطيب يمايز بين خطين حضاريين متجاورين (نحن والغرب) يحيا كل منهما وفق منظومة متماثلة من القيم والسلوكيات لا مرور للتاريخ عليهما ولا أثر. وإن صح هذا، يحق للمرء أن يتساءل عن جدوى دعوة الخطيب إلى «تجوين» العلمانية. أما الثاني فهو أن ثمة بنية وعي استمراري ينتظم معالجة الخطيب، يجد مستنده في فكرة الجوهر (وهو تعبير يستخدمه) الذي قد تتعدد تظاهراته، ولكنها تبقى أمينة لأصولها التي لا يمكن زحزحتها؛ وهنا تتناسل الوقائع الاجتماعية والسياسية والثقافية عبر عود أبدي يغترب زمانه عن أية قطائع ممكنة أو محتملة. نحن هنا أمام إعادة إنتاج لمبدأ الذاتية (الهوية) الصوري؛ ولكنها ذاتية مقلوبة. ففي الوقت الذي قامت الذاتية التقليدية (العربية والإسلامية) باستخلاص أصالتها وخصائصها عبر تكثيف الزمن بأبعاده، ورفعه إلى حقيقة واحدة زعمت لنفسها تمثيله وتجسيده، تأتي الذاتية المتعلمنة لتقر الأولى على ما توصلت إليه، ولكن لتستخدمه كعلامة انحطاط وتخلف. ورغم هذا التنافر الظاهري، إلا أنه ثمة اتفاق على المضامين والمعايير، فالعرب هم العرب، وكذلك الإسلام هو الإسلام، والشيعة هم الشيعة وكذلك السنة، دائماً وأبداً.. ولا معنى للحداثة أو الاستعمار أو للحروب الباردة والساخنة أو للاستبداد.. فهذه أمور عصية على مقاربة الجوهر أو التأثير فيه!!. ولا نجد مبررا لتغاضي دعاة الحداثة العرب عن مفهوم القطيعة الذي يعكس أحد أهم ديناميات الحداثة في صراعها مع فلسفات الجوهر والذاتية الصورية؛ إلا عبر الإشارة الى ذلك التعاطي مع الحداثة على أنها «مصفوفة» مجردة تتألف من العلمانية و «أخواتها»، كالعقلانية والديموقراطية والمواطنة والقانون.. إلخ؛ التي لم تجد طريقها إلى التجوين بسبب ممانعة مجتمعاتنا. والواقع أن ثقفنة الحداثة على هذا النحو، وإحالتها إلى أحكام قيمة، هما من أهم الأسباب في إشاعة مزاج حداثي كربلائي يجيد التعالم والندب، ويذهب بعيداً عن مقاربة الحداثة نقدياً، بوصفها سيرورة كونية تجسدت في تحولات مجتمعية اقتصادية وسياسية وقيمية. إن البحث عن مقابل مستحيل للعلمانية وأخواتها في التراث هو مخاتلة وهروب من النقد إلى التلفيق. ومثل ذلك ينطبق على التعالم العلماني الذي ينتج خطاباً أيديولوجياً فوقياً كارهاً للواقع والنقد، ميالا إلى استخلاص الاستبداد حصرا من أصالتنا العتيدة ومن انقياد مفترض في مجتمعاتنا إلى الأصولية والتخلف، حيث حقيقتها الدائمة. وهذا ما يجعل من خطاب التعالم العلماني (تمييزاً له عن خطاب آخر، نقدي و «دستوري» ومشاغب) خطاب فوبيا من المجتمعات يسعى إلى التمايز عنها. وهذا ما يحصر دعوته إلى « التجوين» بين أقواس كثيرة، فلا يسمع لها أي صدى. * كاتب سوري