على رغم اتساع الخلاف بين تركياوإيران تجاه ملفات المنطقة، فإن علاقاتهما تحكمها المقاربة البراغماتية. لذلك، جاء الموقف التركي من الاحتجاجات التي تشهدها إيران فاتراً أو على مقدار كبير من الحذر، خلافاً للاندفاع التركي في تأييد موجات ما عرف ب «الربيع العربي». فبعد نحو أسبوع على انطلاق الاحتجاجات في إيران، أبدت الخارجية التركية «قلقاً إزاء أنباء عن تمدد التظاهرات وإيقاعها قتلى»؛ داعية إلى «تغليب المنطق لمنع أي تصعيد». كما أعلنت أنها «تعلق أهمية كبرى على الحفاظ على السلم والاستقرار في إيران الصديقة والشقيقة». لكن، في المقابل عزفت تركيا على نهج إيران الرسمي الذي يرى مؤامرة تستهدف إسقاط النظام، لذا حذّرت مما سمته «تدخّلات خارجية». والواقع أن أنقرة وهي تحذّر من «تدخل خارجي يهدف إلى زعزعة الاستقرار في إيران»، كشفت مخاوف جدية لديها من انزلاق الأمور نحو سيناريو المواجهات العنيفة وسفك الدماء، ما قد يتسبب في إشعال مزيد من الحرائق في الإقليم. وكان لافتاً موقف الصحافة التركية، إذ وصفت صحيفة «يني شفق» الاحتجاجات ب «تصعيد خطير»، فيما لاحظت صحيفة «ستار» ما سمّته «لعبة قذرة في إيران». وكتبت صحيفة «يني أكيت» أن «الغرب يقف وراء الفتنة في إيران... إذا نجحت هناك يكون الهدف تركيا». والأرجح أن ثمة دوافع تجعل تركيا أكثر حذراً في التعاطي مع مستجدات المشهد الإيراني، أولها ميراثها السلبي من دعم دول الربيع العربي، فقد خسرت جزءاً مهماً من استثمارها السياسي لدى حكومات العالم العربي ومجتمعاته، وذلك بسبب طبيعة تدخّلاتها في دول المنطقة، وبدا ذلك في فقدانها جزءاً معتبراً من الأسواق العربية اقتصادياً، فضلاً عن قطع العلاقة الديبلوماسية مع بعض الدول العربية، وفي مقدمها مصر وسورية؛ ناهيك بمعاناة تركيا من الإرهاب الراديكالي، وهي التي دعمته بهدف إسقاط نظام الأسد. ويرتبط الثاني، بعدم رغبة تركيا في أن يتعرض شريكها الإقليمي الأساسي - إيران - لهزات كبرى، خصوصاً أن أنقرة تتعرض لتأكّل في مناعتها الإقليمية بفعل تصاعد التوتر مع محيطها الخليجي والعربي بعد انحيازها إلى قطر في الأزمة الخليجية، وإصرارها على التدخل في شؤون دول المنطقة. كما تخشى تركيا من أن يؤدي نجاح الانتفاضة الإيرانية إلى تزايد الضغوط الدولية عليها؛ لا سيما في ظل فتور العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وتوتر العلاقة مع واشنطن بفعل الدعم الأميركي لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري الذي تصنفه تركيا إرهابياً. وتبدو موسكو حليفاً غير مطمئن لأنقرة، فهي التي استضافت المؤتمر الكردي، وتراوغ أنقرة لدعوة وحدات حماية الشعب الكردي إلى مفاوضات سوتشي المقررة نهاية الشهر الجاري، كما منحت الأكراد في مسودة الدستور الذي قدمته في آستانة حكماً ذاتياً، الأمر الذي يقلق أنقرة. خلف ما سبق، تبدو تركيا أقل اندفاعاً في دعم موجة الشتاء الإيراني، خصوصاً أن مسار الحوادث الحاسم لم يتّضح بعد إلى الآن، كما لا يبدو واضحاً لمن ستكون الغلبة في نهاية المطاف. وفي سياق متصل، تخشى تركيا من أن يؤدي أي تطور للنزاع في إيران إلى موجات نزوح جماعي نحوها، في وقت تعاني تراجعاً اقتصادياً وارتفاعاً ملحوظاً في معدل البطالة ناهيك بأنها مثقلة بأكثر من 3 ملايين لاجئ سوري. أما الثالث فيعود إلى أن تركيا على رغم خلافاتها مع إيران في شأن الموقف من بقاء الأسد في السلطة، وهيمنة عناصر «الحشد الشعبي» في العراق، إلا أنها تحرص على جملة مصالح اقتصادية وتجارية مع طهران، فكلتاهما مرتبطة بمجموعة من العلاقات قوامها مبادلات اقتصادية وأخرى خاصة بموارد الطاقة. فالأولى تستورد من الثانية النفط والغاز، في حين تعتمد طهران على أنقرة في توفير جزء معتبر من احتياجاتها الاستهلاكية. وإذا كانت تركياوإيران ترفعان معاً شعار «التجارة أولاً»، إذ يصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى ما يقرب من 30 بليون دولار، فإن الأولى تعي أيضاً أهمية الثانية كبوابة لها إلى آسيا. ويرتبط الرابع بمخاوف تركيا من نقل عدوى الاحتجاج إليها، لا سيما في ظل تصاعد حالة الاستقطاب السياسي، والتي كشفتها نتائج التصويت على التعديلات الدستورية التي حوّلت البلاد نحو النظام الرئاسي، إذ حازت بالكاد 51 في المئة. كما تتسع دائرة الخلاف بين العلمانيين والمحافظين في ظل هيمنة الرئيس التركي على مفاصل المشهد، وبدا ذلك في المسيرة المليونية لزعيم «حزب الشعب الجمهوري» التي انطلقت من إسطنبول إلى أنقرة سيراً على الأقدام، رفضاً لسياسات أردوغان، وتأسيس وزيرة الداخلية السابقة ميرال أكشنير حزبها الجديد «الخير لتركيا»، وإعلانها خوض سباق الرئاسة المقبل لتخليص البلاد مما وصفته بالاستبداد، واستعادة الديموقراطية المخطوفة. خلاصة القول أنه على رغم تزايد الهوة السياسية والأيديولوجية بين أنقرةوطهران في ضوء التطورات في سورية والعراق، إلا أن تركيا حذرة في التعامل مع المشهد الإيراني، خصوصاً أنها أسست مع طهران طوال الشهور التي خلت تحالفاً مبنياً على المصالح السياسية والاقتصادية في المنطقة، وبدا ذلك في دعم إيران الحكومة التركية عقب محاولة الانقلاب الفاشلة. كما أن أنقرة، وإن كانت ترى في إيران مانعاً لطموحاتها في استعادة الكومنولث العثماني، إلا أنها تبدو غير متحمسة لدعم احتجاجات المقهورين في إيران، خصوصاً أن الميراث السلبي للتجربة التركية في دعم ما عُرف بالربيع العربي ما زال ماثلاً في الذهنية التركية.