ما زال المؤلف الموسيقي والملحن الأردني طارق الناصر، يقدم ما يثير الجدل. فبعدما رسّخ حضوراً لافتاً في ميدان الموسيقى التصويرية، لأكثر من عمل تلفزيوني وسينمائي عربي، ونال عنها جوائز بارزة ليست أقلها جائزة أفضل موسيقى تصويرية عن مسلسل «الملك فاروق»، ها هو يعود إلى ميدانه الشخصي الحميم، أي عمله مع فرقته «رم» التي صنعت لنفسها حيزاً في المشهد الموسيقي الأردني والعربي المعاصر. وكانت الحفلة المشتركة ل «رم» مع فرقة «نيدرلاندز بليزرز انسامبل» الهولندية أخيراً، في العاصمة الأردنية، مؤشراً الى حيوية المقترح الذي تقدمه فرقة مؤلف موسيقى «يا روح» في عالم النغم العربي المعاصر، وكذلك الى مفهوم «اتصالي» مع الآخر. وهذا مفهوم كان الناصر خبره على أرض الواقع، مراراً، ضمن حفلات مشتركة مع فرق أوروبية، فقدّم عرضاً مشتركاً مع فرقة «بكا» الموسيقية السويدية في حفلة افتتاح «أيام عمان المسرحية»، عام 1999، ومع الموسيقي الهولندي هيرمان فان فين وفرقته في أمستردام عام 2004، وحفلة مع فرقة «شبلي» الألمانية ضمن «مهرجان جرش» في دورته الرابعة والعشرين عام 2005، وعرض مع فرقة «بريباخ» الاسكتلندية العام الماضي. جوهر موسيقى الناصر يتصل بالروح، إذ تمكّن من أن يجد لنفسه مدخلاً بين موجات الصخب أمام الجمهور الذي غص به مسرح «قصر الثقافة» في عمّان. وبدت موسيقاه وأغاني فريقه «رم» مزيجاً من الجولة الرقيقة والتصوير البارع لأمكنة وموروثات حسّية تبدأ من الفردي ولا تنتهي بالأفق الواسع للبهجة الجماعية. أما أعماله التي قدمها في الحفلة المشتركة مع الفرقة الهولندية، وضمت حوالى 30 موسيقياً أردنياً وهولندياً، فهي: «نور»، «الجوارح» و»عتيق». ويرى صاحب موسيقى «النار»، التي قدمتها فرقته أيضاً مع الموسيقيين الهولنديين، إن «الأوقات العصيبة التي يعيشها الإنسان العربي حالياً، لا سيما لجهة التحولات السياسية والاجتماعية العاصفة، قد لا توفر للموسيقى الصرفة (أي العزف بلا غناء) فرصة معقولة للتواصل مع الناس، إذ تكون هذه الأوقات مناسبة لأغاني اللحظة الصاخبة والتأجيج العاطفي، لكننا سنؤكد الجوهر الإنساني في موسيقانا، لا سيما أننا نقدمها بأساليب قريبة من المتلقي المعاصر ومن دون مبالغات وشعارات». وبدا إن الناصر يطبق ما يقول من خلال انتقالاته بين موسيقى «نور»، في مساراتها اللحنية الأقرب الى تأمل الوجع الإنساني، و «جوارح» في تصويرها طائفة واسعة من المشاعر حتى أوصلها عزف «رم» الى مستويات تختلف عما حققته كافتتاح لعمل درامي تلفزيوني حمل الاسم ذاته وشاع في نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي. ينفتح الاحتفال بما يعيشه الإنسان في منطقتنا، فردياً وجماعياً، أيضاً على مسار «الاتصال مع الآخر» ثقافياً، وموسيقياً بالتحديد. فمثلما عزفت «رم» بعض أعمالها الخاصة منفردة، فقد اشتركت مع الهولنديين في تقديم البعض الآخر من أعمالها مثل «نور»، «ليل»، «جرش» و «نار»، كما عزفت من أعمال الضيوف لا سيما للمؤلفين جون ساثاس وإيستور بيازولا. وردت الفرقة الهولندية على مضيفيها بأن عزفت منفردة من أعمال «رم»، كتحية لفن يقرّب بين الناس. وفي حين بدت الأوركسترا الهولندية أقرب إلى تأمل الإنسان الأوروبي، لا سيما أنها تعتمد الآلات الهوائية حصراً، فقد جاءت الإيقاعات مشرقية الروح والهوى من «رم» الأردنية لتمنح التأمل عمقه المتحرك، فضلاً عن لمسات طارق الناصر على البيانو، مستلهماً من «الجاز» و «السوينغ»، وفي أداء يستمد حيويته من أرشيف الأداء الحي الذي يسبغ على الأعمال طابعاً مثيراً وتفاعلياً يذكّر بتسجيلات الأسطوانات القديمة.