شهدت أنحاء شتى من الشرق الأوسط في النصف الثاني للقرن العشرين موجات من العنف وحركات من النضال لأجل التحرر من الاستعمار، تبعتها ثورات اشتراكية وأحداث فوضوية بانهيار للقوانين والأنظمة، وانتشار لمشاعر الكآبة والإحباط بين الناس، فعلى ما يبدو أن الصراع قد صار مكوناً رئيسياً في تاريخ منطقتنا إلى حد لا يمكن معه تجاهل تأثيره الثقافي الأدبي في إنتاجنا إذا كنا سنتكلم اليوم عن هذه الزاوية، فالكتّاب والمثقفون باعتبارهم «ضمير الشعب» -أو هكذا يُُفترض- دائماً ما تجد اهتمامهم يحوم حول صياغة الهوية المحلية الوطنية لمجتمعاتهم، مع التركيز على تأهيل القيم الاجتماعية، وانتقاد حالة التردي التي يكون الناس قد انغمسوا فيها مع كل حالة تغيير تصحبها بلبلة، ولأنه ليس من السهل الحكم على بعض المظاهر في بداياتها والقول بجيدها من سيئها، خصوصاً إذا كنت من مؤيدي الأسباب التي دعت إلى قيام تلك المظاهر، ولأنه من الصعوبة أن يتقبل الكثيرون فكرة أن الكيان (أياً كان المسمى... ثورة أو انتفاضة)، الذي جسّد آمال وطموحات الناس قد جلب معه البؤس والشقاء أيضاً إن كان في بدايته أو في مراحل لاحقة، ولأنه من المتوقع في الوقت ذاته من الكتّاب والمثقفين أن يدافعوا عن أفكارهم ومبادئهم، ويقودوا الرأي العام بالتزامهم برسالتهم، فتجد أن الكتابة في وقت الثورات ومعارك التحرير من أصعب الأوقات وأحرجها إن في تحري دقة التحليل أو صدق الخبر أو شمولية الرؤية، أو حتى في استيعاب المتلقي ونضجه في تفنيد ما يخالف رأيه. انقلاب الضباط في مصر عام 1952 وعلى رغم من الحماسة الشعبية التي رافقت الحركة، إلا أن الطبيعة الاستبدادية لنظام الحكم الجديد وهيكلية السلطة المركزية سرعان ما انتشرت سلبياتها وشعر بها الناس واحتاروا في تحديد مواقفهم منها، الأمر الذي لم يمنع البعض من المجاهرة برأيه، من خلال القلم وتحمل عواقب المصارحة التي هي أهون عليه من احتقار الذات وسجن الضمير، فمن رواية يحيى حقي عام 1954 وعنوانها «صباح الخير»، وانتقاده لجمال عبدالناصر وشلته، إلى رواية «الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوي التي ترجمها المخرج يوسف شاهين إلى فيلم أبدع في إخراجه، إلى ثلاثية نجيب محفوظ التي كتبها في أوائل الخمسينات وتأخر في نشرها، ولكنه فعل على رغم التحذيرات بالمساءلة، إلى غيرها من أعمال أدبية بارزة قالت كلمتها فنبّهت وأثرّت، ليبقى السؤال: فماذا عن أدب 2011 بفنونه؟ فإذا وصف القرن العشرون بالهجرة الجماعية وبقصة المتشرد الذي لا يحسن العيش في وطنه ولا الحياة خارجه، فما هو الوصف الذي ينطبق على حقبتنا؟ ومتى سيظهر الإنتاج الأدبي الذي يكون علامة فارقة في تسجيل تاريخ فترتنا المزدحمة والحبلى بكل شيء؟ الأسباب التي تدفع الإنسان إلى الرحيل عن وطنه منها ما هو اختياري وطوعي يتعلق - مثلاً - بالتعليم والعمل، ومنها ما هو غير طوعي ويرتبط بالحريات العامة والتعرض للاضطهاد والقهر السياسي، فأي من هذه الأسباب تنطبق على منطقتنا؟ وهل سيشكّل العيش في الوطن عائقاً أمام التعبير؟ بمعنى هل سيحتاج صاحب القلم إلى هجرة وطنه كي يكتب عنه؟ فلا صوت يعلو فوق صوت الثائر هو الشعار السائد اليوم، حسناً، ولكن ماذا عن بقية الأصوات الأخرى المستقلة؟ ثم ماذا عن البلد الحاضن والمفجّر لكل الأصوات؟ فإذا كانت مصر في بداية القرن العشرين قد وفرت السياق الإقليمي اللازم للتجريب والإثارة الأدبية، مناخ مكّن المفكرين من الانتقال إلى القاهرة والمشاركة في الابتكارات والتجديدات الثقافية، فأي دولة عربية اليوم مرشحة للعب هذا الدور المهم في الحركة الثقافية؟ الدولة التي تتبنى النقد الذاتي كما وصفه الروائي والناقد المغربي عبدالكبير الخطيبي ب«النقد المزدوج»، الذي يعمل على تغيير الطريقة التي يفكر ويكتب بها الناس، نمط من الكتابة من شأنه أن يفرز أذواقاً جديدة ويخلق أسواقاً جديدة، وإلاّ فما قيمة كل هذا التغيير وحجم هذه التضحيات إذا كانت النتيجة في أن يخرج عمرو ليأتي زيد؟ ثم ما هو المعيار الذي سنعتمده أساساً في اختيارنا للمدينة العربية المقبلة لنعلنها عاصمة للثقافة إذا كنا لم نحدد بعد قيمة الثقافة في حياتنا ونهضتنا وانتفاضاتنا؟ أم يُعقل أن يتقزّم ما علق في أذهان الناس مع كل ما جرى ويجري إلى كلمتي زنقة زنقة، لأن الشعر الذي لا نزال نردده لأبي القاسم الشابي عن الشعب إذا أراد الحياة والذي قيل من ثمانين عاماً لم نجد غيره - ويفوقه - في 2011 ليفك زنقتنا! [email protected]