في ظل تنامي سطوة السرد على مستوى الوطن العربي يأتي السؤال كيف يبدو المشهد الروائي في دولة عُمان.. وهل هناك منجز روائي يحرص على المساءلة! عن عوالم السرد في عُمان كان لثقافة «الرياض» هذا التواصل مع الناقد سالم آل توية والروائي أحمد الرحبي لنستكشف معهما بعضاً من ملامح المنجز السردي في المشهد العماني: يقول الناقد سالم آل توية عن غياب الرواية في عُمان: الرواية في عُمان ليست غائبة؛ فمعنى هذا أنها كانت حاضرة ثم غابت، وقد يكون الأدق القول أن الرواية في عُمان نشأت متزامنة مع القصة القصيرة، كأحد الأشكال السردية الوافدة، ولكون كتابتها أكثر تعقيداً وأطول زمناً من القصة، ولحاجتها إلى خبرات كتابية وحياتية وتخطيط... إلخ، قلَّ عدد كتّابها باعتبارها أيضاً فناً لا تتميز ملامحه إلا بتوافره بكمّ معقول. منذ البداية قليلون كانوا كتاب الرواية، وباستثناء رواية «ملائكة الجبل الأخضر» لعبدالله الطائي أو روايتي سيف السعدي أو روايتي علي المعمري «رابية الخطار» و«عليُّ الزَّمان» على سبيل المثال، لا نجد تراكماً معقولاً عدا إصدارات سعود المظفر الروائية التي لا تقل عن سبع روايات، علماً بأن الحديث هنا إحصائي لا يخضع لمقارنات ولا يلتفت إلى مستوى إبداعي، والمفارقة أن هذا الإنتاج الروائي غير مقروء قراءة نقدية متفحصة حتى هذه اللحظة؛ فقد جرت العادة على الصمت بصفته أبلغ. والسؤال يبقى مطروحاً بقوة: لماذا يقل عدد الروايات المكتوبة في عُمان؟ هل للأمر علاقة بالكسل؟ نستطيع تعليل الأمر هكذا بالطبع، خاصة وأن أغلب الكتّاب هنا - باختلاف ما يكتبونه - لا يبنون اشتغالاتهم على مشروع فنتاجاتهم تظهر وتختفي وقد تفصل بين النص والآخر فترة زمنية طويلة، وقد يتوقف الكاتب نهائياً مثلما حدث عند بعضهم. ويرجع الناقد سالم آل توية سبب قلة الروائيين في عُمان إلى عدم ملامسة تفاصيل الحياة هنا وتوظيفها في عمل سردي طويل: حيث يتم الاكتفاء - بدلاً من ذلك - بالاستغراق في الذاتيات وإفراغها - نفسياً - في قصص تتوسل البوح والإخبار، كما يتعلّق الأمر بحاجة ماسة إلى بحث اجتماعي معمَّق يتناول الحضور الطاغي إلى حد لافت جداً للشخصية الوحيدة المعذبة والمنكوبة التي لا تعرف ماذا تفعل بالضبط في غرفة كئيبة أو خواء يسحق الشخصية كالحشرة، وفي المقابل تراجع حضور المجتمع في النص السردي كشخوص ومناخ وأحداث، فهذا الأخير يمثل المادة الخام لأي عمل سردي، وللرواية بشكل خاص. ويستعرض الناقد آل توية بعض الاصدارات الروائية العمانية فيقول: في الفترة الأخيرة صدرت رواية جديدة للقاص حسين العبري حملت عنوان «الوخز»، وهي العمل (الروائي) الثاني للعبري بعد «دياز بيام» عمله الأول الذي تتقطع به الأسباب دون أن يكون رواية وإن ظل السرد واضحاً فيه. لعل «الوخز» والوقت الذي تصدر فيه الآن مؤشر على إصرار العبري الإبداعي على كتابة رواية تتجاوز المحاولات السابقة نحو عمل روائي بلا مواربات سردية. وهنا أوجّه إليه التحية على اختياره لموضوع «الوخز» الذي يهدد بتحطيم بقايا مانتشبث به من حقوق وإنسانية كأناس ينقسم وعيهم بين العيش في القرن الحادي والعشرين وبين العيش في أزمان بائدة انقرضت وما عادت إلا في سجل التخلف البشري. قبل هذا أو في سياقه ربما حدثت انعطافة بالنسبة إلى الرواية في عُمان بصدور رواية «الطواف حيث الجمر» ل بدرية الشحي، ذلك أن اللغة تغيرت لصالح نص أقوى هيمنت عليه سابقاً لغة تقليدية وعظية، والكلام هنا لا يقيِّم من بعيد ولا قريب مستوى الرواية وإنما يشير إلى بعض السمات واختلافها بين محاولات الرواية التقليدية وبين المحاولات الجديدة. ومن الأسماء الجديدة برزت جوخة الحارثي في (رواية) «منامات» في ارتباك آخر جديد تورطه الرغبة في التصنيف، بمعنى أن السرد هنا لا يذهب خالصاً للرواية، وهناك من يراها مع «دياز بيام» حسين العبري أقرب إلى السيرة الذاتية. ومؤخراً صدرت الطبعة الثانية من رواية «حزّ القيد» ل محمد عيد العريمي منتشلة نفسها من إشكالات عدة لم يتجاوزها أغلب سابقاتها، فطوال الرواية لا نفقد خيط الأحداث ويظل القارئ مشدوداً وحاضراً مع النص لا سيَّما وأن فكرة الرواية تعالج قضايا حيَّة يعاني منها الناس يومياً، حتى وإن عرف الكاتب كيف يحوِّر النص كاملاً ويصرف انتباه القارئ إلى ربطه ببلدان وأماكن أخرى. وفي أية حال الرهان يقوم بشكل خاص على ما سيكتبه العريمي مستقبلاً، فمن خلاله ستكون التجربة قد أخذت مداها الطبيعي للتطور والنضج الفني، وهو ما ينطبق على بقية كتّاب الرواية الآخرين. الروائي أحمد الرحبي يعتقد بأن الوقت مازال مبكراً على الحديث عن مشهد روائي متبلور يمكن الاعتداد به ويرى: بأن الكتابة عنه بصفته منجزاً متحققاً، متراكماً، مثلما هو الحال في بلدان عربية أخرى كمصر ولبنان وسوريا والمغرب وإلى حد ما السعودية. ولا أتحدث هنا عن تجارب متفرقة آنية ومحاولات متفاوتة القيمة، وطبعاً ومن باب أولى ليس تراكماً فاقداً للقيمة الأدبية، حيث إن تقييم مشهد أدبي ما يتطلب (كأضعف الإيمان) وجود كاتب واحد خاض غمار تجربته الفنية في الكتابة سعياً لرسم مشروعه الكتابي الأدبي المتكامل والمستوفي لشروطه. نعم، هناك أسماء عمانية كتبت رواية واحدة جيدة وجديرة بمساءلتها، ومنها (الأسماء) من نشر فصلاً أو أكثر، يحلم كاتبها أو كتابتها أن تكتمل وتنشر كاملة (وكاتب هذه السطور ينتمي إلى تلك الأسماء)، ولكن هذا لا يعطينا الحق (بعد) في الحديث عن روائيين عمانيين لديهم رصيد نوعي يمكن إخضاعه لامتحان نقدي أو التنظير له. أخشى بأنني في طريقي للقول بأن هناك حالمين لكتابة الرواية في عمان ولا وجود لروائيين، وطبعاً هذا بحد ذاته أمر يدعو للتفاؤل حتى ولو طالت فترة الحلم أو المخاض. وعن سطوة النص الشعري على المشهد الإبداعي العماني يقول الناقد سالم آل توية: لا أظن للأمر علاقة بتسيُّد النص الشعري؛ فعلى العكس من هذا تراجع الشعر كثيراً أمام الرواية في العالم وليس في عُمان فقط، فما بالك إذا كانت النسبة الأكبر من النصوص الشعرية أو التي تتوسل وتتسوَّل الشعر - عدا بعض التجارب - تعاني افتعالاً وتقليداً ما أنزل الله بهما من سلطان؟، فضلاً عن أن «المنجز الشعري» الحقيقي يتوقف (متذوقو الشعر!) في عُمان عن التواصل معه ويكتفون بالطرب مثل كل (متذوقي الشعر!) في عالمنا العربي الرائع. أما الروائي أحمد الرحبي فيرى الشعر هو النوع الأدبي الأكثر اكتمالاً في المشهد العماني حيث يقول: إذا أتينا في الحديث عن الشعر أو القصة في عمان (في سبيل مقارنتها بالرواية) فسنجد أنفسنا أمام خريطة جديرة بالتمهل أمامها أو كما يُقال سيكون حديث ذو شجون. بالنسبة للشعر فهو النوع الأدبي الأكثر اكتمالاً في الساحة الثقافية العمانية، ذلك نظراً للتاريخ الشعري العماني المهم الذي لا تكتمل من دونه كلاسيكية الشعر العربي من جانب، والذي يسوغ لنا من جانب آخر مقولة أن البيئة العمانية بكل ما تزخر به من تراث وتقاليد هي بيئة شعرية في المقام الأول، والحال هنا لم يتغير منذ قصيدة مالك بن فهم قبل قرون من الميلاد (والتي مطلعها: أعلمه الرماية كل يوم.. فلما اشتد ساعده رماني) وحتى لحظتنا الراهنة، رغم تبدل إيقاع الزمن والشعر. يوجد في عمان اليوم شعراء خرجوا من صلب المكان العماني بكل أطيافه وأشباحه وجغرافيته المائزة، وصل صوتهم إلى المحيط العربي وتعداه (من خلال الترجمة إلى لغات أخرى)، وهناك غيرهم شعراء يظلمهم الإعلام ويظلمون أنفسهم (بكسلهم أو لأسباب أخرى) ولكنهم يحتكمون على طاقة شعرية وموهبة أصيلة. من هذا المنطلق بإمكاننا مشاهدة ومساءلة المشهد الشعري العماني. لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لحضور القصة وموقعها في المشهد الأدبي العماني، فبرغم حداثة هذا النوع الإبداعي، في عمان مثلما في باقي بلدان الخليج العربي، إلا أنه عرف زخماً ملفتاً واستهوى العديد من الأقلام كشكل أو أسلوب إبداعي. هذا ما نراه من خلال آلية النشر بما يتعلّق بالمجموعات القصصية للجيل الشاب من الكتاب، وهي آلية أعتقد جازماً بأنها في دورتها الطبيعية وبأنها ستأخذ طوراً مهماً سواء من ناحية الكم أو القيمة. قبل أن ننتقل إلى الإجابة على السؤال المتعلّق بالرواية في عمان أو ثالث الأثافي، وأسباب تأخرها عن الشعر والقصة، علينا أولاً البحث عن إجابة لعدة أسئلة وتساؤلات منها: أين هو المسرح وكيف يعيش؟ كيف هي الحياة الصحفية؟ أين السينما؟ أين مراكز البحوث وأين هي الموسوعات العلمية التي تمد المجتمع بأنفاس ومشاريع فكرية متجددة؟ ربما سيأتي كل هذا وأشياء مماثلة في المستقبل، حينئذ فقط يمكن التحدث عن رواية عمانية وروائيين، وإلا، وكما ذكرنا، فإن المخاض سيطول. الرواية في رأيي، وأكثر من أي نوع إبداعي آخر، لا يتأتى لها العيش سوى في بذخ معرفي ينتشر بيسر وحرية في أوصال المجتمع. غني عن القول بأنني لا أقصد هنا استحالة ظهور نبتة جميلة هنا وأخرى هناك إلا أن ذلك لا يصنع حقلاً، وهذا الحال ينسحب على جميع البلدان العربية بشكل أو بآخر، وذلك بالمقارنة مع الغابة الظليلة التي ظهرت في أمريكا اللاتينية مثلاً والتي ذاق العالم ومازال يذوق من ثمارها.