«نشتم الرائحة، ثم يبدأ الدخان الأبيض بالتصاعد ويلف بنايتنا، يبدأ الحرق عادة في الليل ويستمر حتى الفجر، فأركض فوراً إلى الشرفة لأُدخل الملابس ثم أقفل النوافذ والأبواب. ولكن الرائحة والدخان يبقيان، لا يمكننا تشغيل مكيّف الهواء، لا يمكننا النوم. نبقى مستيقظين حتى الصباح ونشعر أننا نختنق». هذا ما تقوله ليلى التي تسكن قرب إحدى المكبّات المفتوحة ل» هيومن رايتس واتش»، في التقرير الذي نشرته المنظمة مطلع الشهر الحالي. ويورد التقرير إنّ إدارة النفايات الصلبة في لبنان تعتمد أساساً على الطمر والمكبات المكشوفة والحرق في الهواء الطلق، وعلى رغم أن 100 في المئة من النفايات تجمع تقريباً يُعاد تدوير 8 في المئة فقط منها، ويُسبّخ 15 في المئة. أما النسبة المتبقية، أي 77 في المئة، فتذهب إلى المكبّات المكشوفة أو تُطمَر. وتؤثّر هذه الطريقة في إدارة النفايات سلباً على البيئة وعلى الصحة، لا سيّما في المناطق الأكثر فقراً. وتقول الأسر التي تعيش قرب المكبّات المكشوفة في لبنان وفق التقرير، إن حرق النفايات في الهواء الطلق أثّر على جوانب عدّة من حياتهم. فبعض الأسر قالت إنها لم تتمكن من قضاء وقت في الخارج، ووجدت صعوبة في النوم بسبب الدخان. وبعضها اضطر إلى مغادرة المنازل في أوقات الحرق. يشرح الاختصاصي في طب العائلة الطبيب الشرعي الدكتور سامي القواس أن تراكم النفايات يؤدّي إلى تعفّن وفساد وانحلال المهملات، ما يجذب الذباب والناموس والحشرات والصراصير والفئران والجرذان، التي تنقل بدورها الأمراض مثل التيفوئيد والكوليرا والراعون أو التهاب الكبد من نوع «أ» والعدوات. ويشرح أن المشكل الأساس يعود إلى تسرّب عصارة النفايات الملوّثة والمفسّخة إلى المياه السطحية والجوفية، ما يخلّ بالنظام البيئي ويلوّث النباتات ويعدي الحيوانات الأرضية والبحرية والنهرية والبحيرية، ويلوث في النهاية الإنسان. ويضيف القواس، أن هذه المياه المفسّخة تندمج مع المياه الزراعية والمياه المنزلية، وهذا أيضاً يلوث الإنسان، كما تبين من خلال فحوصات لأنواع المياه المنزلية التي أجريت في مستشفى الجامعة الأميركية، والتي أظهرت وجود جراثيم أشهرها الجرثومة البرازية. وإذا كانت الأضرار الصحية لتراكم النفايات في المكبّات المفتوحة كثيرة، فإن لحرقها أضراراً هائلة. وفي هذا الإطار يشرح الدكتور القواس أنّ الأضرار تأتي من انبعاث مواد سامة كثيرة مثل أول وثاني أوكسيد الكربون وأوكسيد النيتروجين والديوكسينات والفوران وثنائي الفينيل متعدد الكلور، ومعادن ثقيلة سامة مثل الرصاص والزيبق والزرنيخ، والسموميات الأخرى الغازية أو السائلة مثل البنزين والستايرين والفورمول وغيرها، موضحاً أن هذه المواد السامة تؤدّي إلى عوارض مرضية عدة مثل السعال وضيق التنفّس وازدياد التحسس في الجهاز التنفسي والغثيان والتقيؤ والإسهال والأرق والعطس وسيلان الأنف، إضافة إلى الرشح وتدميع العينين والتعب والصداع وإفراز البلغم والتهابات الحلق والطفح والحكاك الجلديين. ولا يقف الأمر عند هذه العوارض بل يؤدّي على المدى البعيد إلى اختلال في وظائف الكبد والكلى والجهاز العصبي والمناعي، وخلل في الغدد الصماء والنمو والهورمونات والجهاز الإنجابي والتناسلي. إضافة إلى سلامة القلب حيث يسبب عدم انتظام ضرباته وجلطات قلبية، والأمراض الجلدية مثل كلوركني (chloracne) الذي أصيب بها على سبيل المثال مرشّح للرئاسة الجمهورية الأوكرانية من جراء أزمة النفايات لديهم في العام 2004. وفي حين أشار الدكتور القواس إلى أن الأطفال والمسنين والأجنة هم الأكثر عرضة للخطر، أكّد أنّ الأبحاث أثبتت أن مادة الديوكسين والمنتجات الثانوية لها المنبعثة من حرق النفايات تنتج مكوّنات سامة مسرطنة، قابلة للذوبان داخل دهون جسم الإنسان. ويتحدّث قواس عن زيادة في نسبة الأشخاص الذين يدخلون إلى المستشفيات بسبب الإسهال الجرثومي أو أزمات تنفسية حادة وتحسسية، وحتى التهابات رئوية، مؤكداً أنّ الأمر الذي يقلق أكثر هو العوارض السريرية غير المحددة، مثل الشكاوى الحديثة العهد من الشعور بالتعب المزمن أو أوجاع الرأس المزمنة أو الغثيان من دون سبب، أو الإسهال المزمن غير القابل للمعالجة أو الطفحات الجلدية المتكررة غير القابلة للتشخيص. ما لا شكّ فيه أنّ لبنان ومن خلال اعتماده حرق النفايات يخالف قوانين واتفاقات بيئيّة عالمية عدة. لكن ما لا يعرفه كثر أنّه يخالف قوانينه الخاصة أيضاً. وفي هذا الإطار تشرح المستشارة القانونية ل «الحركة البيئية اللبنانية» جوزيان يزبك، أن حرق النفايات مخالف لقانون حماية البيئة أي القانون اللبناني للبيئة «444» وتحديداً المادة 3 منه، التي تنص على حق الإنسان ببيئة سليمة. هذا فضلاً عن مخالفة المادة 4 وتحديداً المبدأ الأول والذي هو مبدأ «الاحتراز»، الذي ينص على ضرورة اعتماد تدابير فعالة ومناسبة استناداً إلى المعلومات العلمية، واعتماد أفضل التقنيات النظيفة المتاحة والهادفة إلى الوقاية من أي تهديد بضرر محتمل وغير قابل للتصحيح يلحق بالبيئة. وعلى الصعيد الدولي يخالف لبنان في موضوع حرق النفايات اتفاقات موقّع عليها، لاسيّما تلك التي تؤكّد ضرورة أن تعمل الدول الموقعة على التخفيف قدر المستطاع والقضاء على كل ما من شأنه التسبّب بانبعاثات غازية، أو تلك التي تنص على أن تقوم الدول بإدارة سليمة لنفاياتها، ومنها اتفاقيات «ستوكهولم» و «بازل» و «كيوتو» في شكل مباشر، إلى اتفاقيات أخرى تتعلّق بالبيئة عموماً وليس عن النفايات أو الحرق في شكل مباشر. وتنص المادة 17 من اتفاقية ستوكهولم على اعتماد آليات مؤسّسية لتحديد عدم الامتثال للاتفاقية وكيفية معاملة الأطراف التي يثبت عدم احترامها لها، ولكن حتى اليوم لم نر تطبيق هذه المادة ولم نسمع بدولة حوسبت لعدم التزامها بالبنود، وفق ما تقول يزبك، مضيفة أنه لو كان هناك محاسبة لكان لبنان أو من حوسب، لافتة إلى أنه يمكن للمواطن العادي المتضرر من حرق النفايات أن يتوجّه إلى النيابة العامة البيئيّة المخوّلة التحقيق في هذا النوع من الجرائم، بموجب القانون 251 الصادر في العام 2014، الذي عدّل قانون أصول المحاكمات الجزائية و «صار لدينا محامون عامون مختصون بدراسة ملفات المخالفات المتعلقة بالأمور البيئية على أنواعها»، مشيرة بالمناسبة إلى ضرورة تجديد القوانين وعصرنتها. يذكر أنّ الحكومة اللبنانية وافقت على مشروع قانون متكامل لإدارة النفايات الصلبة وأحالته إلى مجلس النواب في عام 2012، ومن المقرر أن ينشئ المشروع مجلساً موحّداً لإدارتها ترأسه وزارة البيئة، يكون مسؤولاً عن صناعة القرار والمعالجة على المستوى الوطني، بينما يترك تجميع النفايات بيد السلطات المحلية (البلديات). وكانت دراسة أجرتها «سويب- نت» في عام 2014 أشارت إلى أن القانون وحده لن يكون كافياً لتطبيق نظام لإدارة النفايات الصلبة في لبنان. كما وضعت الحكومة في عام 2006 مع وزارة البيئة ومجلس الإنماء والإعمار خطة مدتها 10 سنوات للمناطق غير المشمولة في خطة طوارئ 1997، من شأنها تأمين التجميع والفرز وإعادة التدوير والتسبيخ، مع مراكز مختصة في الأقضية، غير أنها لم تنفّذ. على صعيد آخر، أطلق رئيس «الحركة البيئية اللبنانية» بول أبي راشد مشروع حل بيئياً لنفايات بيروت وجبل لبنان، ورفعه إلى رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي كريستينا لاسن. ويقترح فيه إقفال المطامر البحرية واحترام الاتفاقيات الدولية لاسيما اتفاقية برشلونة لحماية البحر المتوسط، ويضع حداً للمكبات العشوائية المنتشرة في كل مكان. ويشرح أن هذا الحل سريع التنفيذ وأسرع بكثير من اعتماد المحارق، وتبلغ كلفته نحو 21 مليون يورو، ويوفر 100 دولار لكل طن نفايات أي ما يعادل 100 مليون دولار في السنة، إضافة إلى توفير الوقود البديل لإنتاج الطاقة والمواد الأولية لصناعات التدوير وفرص عمل جديدة.